لقد كانت الدولة والحكم في مرمى أبصار «الإخوان المسلمين» من أول يوم، ويتجلى هذا في كتابات حسن البنا التي كانت تأصيلاً متيناً لأفكارهم، إذ كان يكثر الحديث عن الحكم والدولة، ووضع ذلك في الأصل الأول من الأصول العشرين التي ينطلقون منها، وأعطى الدولة والحكم الأولوية المطلقة كما فهمه الكثير من أتباعه فقال: «الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دين ووطن أو حكومة وأمة، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة»، وأكد ذلك مراراً بقوله: «فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية وعمل ومصحف وسيف، والقرآن ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام وصحيحه»، ولقد جعل مسألة الحكم والدولة من أصول العقائد مخالفاً بذلك جميع علماء الإسلام قبله، وهو ما دعاه إلى اتخاذ شعار السيفين المتقاطعين وبينهما (وأعدوا) مع المصحف، وهذا هو الذي دعاهم إلى الصدام مع الحكومات القائمة التي كانوا يتعاونون معها تارةً ويؤيدونها، ويحاربونها ويمكرون بها تارة أخرى، مما أدى إلى المواجهة وإلى دخولهم السجون. تكفير المجتمع وهنا تلقف سيد قطب فكرة الحكم والدولة وأبرز مفهوم الحاكمية الذي ولّد منه مفهوماً آخر هو الجاهلية، ومن هذين المصطلحين ترسخ العداء للدولة والمجتمع وحكم عليهما بالكفر والردّة إلى الجاهلية الأولى. أما الحاكمية فقد كرر هذا المصطلح في النصف الأول من كتابه ظلال القرآن نحواً من 77 مرة، وأما المفهوم الثاني فقد ردّده نحواً من 555 مرة، فالحاكمية لها عنده بعد شمولي لكل صغير وكبير في الحياة، يقول في تفسير سورة البقرة: «الحاكمية لله وحده فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع»، ويقول في تفسير سورة النساء: «الحاكمية لله وحده في حياة البشر ما جلّ منها وما دقَّ وما كبر منها وما صغر». الخلط بين الإيمان والاجتهاد ويقول في تفسير سورة الأنعام (كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعاً مطلقاً لحاكمية الله المباشرة المتمثلة في شريعته وإلا فهو الخروج من الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة) وله في ذلك كلام كثير مثله، وهذا التفسير الذي جاء به هو خلط للألوهية وصفاتها بالحكم والدولة وهي من الأمور الدنيوية، ولأصول الاعتقاد بفروع الفقه والاجتهاد وهذا مخالف للقرآن الكريم الذي يحض على الاجتهاد والنظر كما في قوله تعالى:(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)النساء 83، وكلام سيد قطب لا يفرق بين الأصول الاعتقادية والإيمانية وبين الفروع الفقهية ولا بين ما هو من صفات الله وما تركه لعباده من اجتهاد في أمور دنياهم ومعاشهم، فكلها يجمعها بكلام عام مطلق تحت عنوان الحاكمية، ويقول في تفسير سورة الأنعام: (إنها القضية الأساسية في هذا الدين قضية الحاكمية لمن تكون وبالتعبير المرادف قضية الألوهية والربوبية لمن تكون... وقضية التشريع هي قضية الحاكمية وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان) هذا الخلط طارئ وغير مسبوق عند علماء الإسلام ومفكريه ولم يستعملوا كلمة الحاكمية إلا في الدلالة على الفرقة المنسوبة للحاكم بأمر الله الفاطمي، وجاءت مرة واحدة في سياق آخر عند نجم الدين الطرسوسي من القرن التاسع الهجري، أو تكون بمعنى القضاء بين الناس وفصل الخصومات. من «الحاكمية» إلى «الجاهلية» وفكرة الحاكمية وُلدت وظهرت في السجون كردة فعل على النظام القائم، ووُلدت منها فكرة أخرى خطيرة جداً وهي (الجاهلية)، وأن المجتمع الإسلامي قد ارتدّ كله إلى الجاهلية يقول في تفسير سورة الأعراف: (إن البشرية تنقسم شيعاً كله جاهلية... وشيعة تسمى نفسها مسلمة وهي تتبع مناهج أهل الكتاب حذوك النعل بالنعل خارجةً من دين الله إلى دين العباد... لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية)، وقد جعل هذا الكلام كلَ من يعتمده ويتّبعه ينظر للمسلمين والناس أجمعين أنهم في جاهلية وكفر ومن باب أولى رجالات الحكم والسلطة، ومن هنا ترسخ مفهوم التمرد على المجتمع بكل ما فيه واستحلال الدماء والأعراض والأموال لأن الناس كلهم في جاهلية وكفر حتى ولو كانوا يشهدون بـ(لا إله إلا الله) وعمّق هذا بكلام صريح في تكفير المسلمين فقال: «فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا الله وإن ظل فريق منهم يردد على المآذن: لا إله إلا الله دون أن يدرك مدلولها ودون أن يعي هذا المدلول وهو يرددها... البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع، وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى ومن بعد أن كانوا في دين الله». هذا الكلام في غاية الخطورة لم يسبقه به إلا الخوارج الذين حاربهم الصحابة، لأنه يكفر الناس ويرميهم بالردّة وكأنه قد شق عن قلوبهم وعرف ما بداخلهم، وهذا لم يوافق عليه أحد من علماء الإسلام طيلة القرون السالفة، ويتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم وهدي النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يأتيه الناس أفراداً ومجموعات فيعلنون الشهادة، وبذلك يدخلون في الدين وتصبح أرواحهم وأموالهم وأعراضهم معصومة. التأسيس للرعب والتدمير ومن هذه المقولات غير الصحيحة ولا المقبولة شرعاً ولد العنف والتطرف بمسوح الدين وغطاء الإسلام في مجتمعاتنا وكان التأصيل للعنف والتطرف واضحاً في مقولاته كما في تفسير سورة الأنفال (فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم الله سبحانه عن حياة الناس في الأرض وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام كالجولة الأولى تأخذ في التنظيم كل أحكامها حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة، ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى بإذن الله فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل). وإن المتأمل لهذا الكلام يجده أساساً لما نحن فيه اليوم من هذا الرعب والتدمير وقد طبقوا أطواره من التكفير والهجرة، إلى "القاعدة" وصولاً إلى داعش وتوحشها، لقد كان هذا الكلام دليلاً أمامهم وطريقاً لهم فكفروا به الناس واستحلوا الحرمات، ولم ينج منهم حتى علماء الإسلام، ثم وسّعوا هذا الكلام وعمقوه ليسوغوا القتل والعنف حتى قال أحد أتباعه: (كل القوانين المخالفة للإسلام في الدولة فهي قوانين كفر وكل من أعدّها أو ساهم في إعدادها أو جعلها تشريعات ملزمة وكل من طبقها دون اعتراض عليها أو إنكارها فهو كافر، ولهذا فإن كل أعضاء اللجنة من المستشارين الذين وضعوا هذه التشريعات وكل أعضاء البرلمان الذين صدّقوا وكل مجلس الوزراء الذي قدمها والرئيس الذي وقع عليها، والقضاة والنيابة ومحققو الشرطة والمباحث الذين حققوا بموجبها إذ كانوا غير معترضين عليها وأخلصوا في عملهم بموجبها فهم كفار، وكل فرد من أفراد الشعب رضي بها أو لم ينكرها أو وقف موقف اللامبالاة منها فهو كافر)، وهنا يتساءل العاقل من بقي في الأرض من المسلمين؟! وبأحكامهم الظلامية هذه فقد صار كل المسلمين كفاراً تستباح أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وكذلك كان يفعل هؤلاء ولا يزالون يفعلونه، وكله باسم الحاكمية والجاهلية. المنتسبون للحركات المتطرفة جعلوا من دعاياتهم وإعلاناتهم للعنف والوحشية (جراراً زراعياً رُكبت عليه سكاكين على طريقة قَصاصة الحشائش في الحدائق ولكن لتمزيق البشر)، وصارت الإعدامات الدموية للمسلمين والذبح والرجم وقطع الأطراف والرؤوس تحت مسمى الردّة التي وقع فيها هؤلاء مع أنهم يشهدون بلا إله إلا الله ولو كانوا والدين أو أبناء عمّ أو أرحاماً صارت هذه الأعمال الشنيعة من عباداتهم وكل واحدٍ منهم يمارسها حسب ساديته. ضحالة فاضحة وقد وصل هؤلاء إلى هذا التكفير والتدمير لفقدان المرجعية الواضحة والضحالة الفاضحة في معرفة الأحكام الشرعية وأصول الإيمان والاعتقاد، وخرج هذا الفكر المظلم من ظلمات السجون ونشروه بين الناس واستقطبوا به الأغرار من الشباب المتحمس، وقد ساعدهم على انتشاره عدم تحقيق أغلب الحكومات القائمة مطامح شعوبها في الحياة الكريمة واستهانتها بالقيم، والانكسارات التي حدثت في تاريخنا المعاصر. كما أن رغبة العنف والقتل لديهم تم تعميقها عندما وصل الأمر إلى تنظيم «القاعدة»، وبدأ أسامة بن لادن يجمع حوله الشباب المتحمس من جانب والموتور من جانب آخر، وهو لا يستطيع فرز المفاهيم الصحيحة من الخاطئة وأطلق عليهم «الحركة الجهادية لإخراج القوات الكافرة من جزيرة العرب وإسقاط الأنظمة المتواطئة معها»، وكانت الكلمة للعاطفة على حساب العقل حتى صار العنف فخراً، والوحشية شعاراً لهؤلاء. إن التأصيل لهذا العنف عند هذه الحركات المتطرفة «داعش» وأخواتها يستند إلى هذا الفكر الذي يتبناه «الإخوان المسلمون»، ولم يرفعوه من أدبياتهم أو يعترضوا عليه بوضوح وصراحة، وكان لهم جانبان: جانب خفي يؤيده ويتبناه ويدعم الحركات المتطرفة هذه وينسبها إليه، وجانب آخر يسلك العملية السياسية ويقدم التنازلات ولو كان على حساب الثوابت الدينية والوطنية التي يعلنون الالتزام بها. إن هذه الأفكار الخطيرة بحاجة إلى تفكيك ومقارعة وبيان حتى لا تنخدع بها الأجيال الناشئة وخاصة من ليس له عمق في المعرفة الدينية أو غلبته العاطفة فتستهويه باسم الدين فتجره وتهلكه وتهلك معه الحرث والنسل كما قال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) البقرة 205. *المستشار الديني في ديوان ولي عهد أبوظبي