خاطب الضابط البعثي المخضرم أحمد حسن البكر زميله الحزبي الشاب جواد هاشم بداية صيف 1968 قائلاً: لو استمر حكم البعث منذ عام 1963 لكان العراق قد أصبح جنة من جنان الدنيا ، ومن تصاريف القدر، ولسو ء حظ العراق والعراقيين، أتيحت فرصة ثانية لمغامري البعث استمرت خمسة وثلاثين عاماً لصنع جنتهم فاقتتلوا كما لم يقتتل غيرهم، وتآمروا كما لم يتآمر غيرهم، وفي المحصلة النهائية تمخض عبثهم عن إحدى أكثر تجارب العالم العربي المعاصر مأساوية، جمهورية خوف بلا تنمية وحكم أجهزة أمن شردت أبناء العراق فلم تعد هناك حاجة إلى عدو ليقوم بمثل هذه المهمة· ومناسبة الحديث اليوم مذكرات الوزير السابق الدكتور جواد هاشم المعنونة مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام: ذكريات في السياسة العراقية 1967-2000 · وجواد هاشم المقيم في لندن، عرفناه سابقاً من خلال الملاحقات القانونية المطولة من قبل صندوق النقد العربي والذي ترأسه في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وتبقى حساسية هذا الفصل من خلال الاتهامات التي يسوقها المؤلف لشخصية خليجية مرموقة يدعي أنها وراء سجنه لأيام معدودة بأمر برزان التكريتي·
والمذكرات الصادرة عن دار الساقي هذا العام مشوقة في التفاصيل من حيث إنها تأتي من شاهد ومشارك في مرحلة حزينة من مراحل التاريخ السياسي للعراق، كما أنها تلقي الضوء على جوانب تتعلق بشخصيات عامة كانت مسؤولة عن إدارة دفة الأمور في إحدى أكثر الدول العربية أهمية، تفاصيل تتعلق بالبكر وصدام حسين وصالح مهدي عماش وطه ياسين رمضان المعروف بالجزراوي، وقيادات ومسؤولين آخرين أقل أهمية·
وملامح الرواية تبدو مألوفة من حيث التفاصيل التي كنا قد سمعناها من عراقيي الديسابورا وقرأنها من قبل من خلال مذكرات الرفاق الذين نفذوا بجلدهم، وهي أولاً وأخيراً صراع على السلطة بين العسكر والحزبيين وسيطرتهم على المجتمع المدني، وهي ثانياً تفاصيل تصفية الرفاق لبعضهم بعضا وتغطية شريعة الغاب هذه بمجموعة من الشعارات البراقة الخاوية حول المصير الواحد والحرية والرسالة الخالدة· وتبرز من خلال هذا السرد، والعديد من المقابلات والكتب السابقة، ضحالة المستوى الفكري لمن تولوا إدارة الشأن العام وإفلاسهم الأخلاقي أمام مغريات التشبث بالسلطة والتمسك بالكرسي· والدكتور جواد هاشم في وصفه هذا يؤكد ما نعرفه من أن الانقلابات العسكرية والديكتاتورية الحزبية مسؤولة عن ضياع عقود من فرص التنمية، وأن العديد من الشخصيات المريضة والجاهلة استغلت غياب المؤسسية وتقاليدها لتتسبب في تجذير التخلف وتقطيع حقوق وإنسانية الإنسان العربي· ومن طريف ما ذكره المؤلف وصفه لشخصية الجزراوي بالعبارات التالية: شخصية غريبة الأطوار: خليط من وقاحة وغرور وإحساس داخلي بالضآلة والدونية ·
الجانب الآخر الذي يبرز وبوضوح هو الغياب الكامل للمؤسسات والفكر المؤسسي في التعامل مع الشأن العام، فلا تفكير بالأمور الاستراتيجية حين يكون الرئيس وكبار مساعديه مشغولين بجزئيات لا داعي لها من تعيين موظف عادي إلى منع مطرب شعبي من الظهور على التلفزيون إلى منع السكرتيرات في المؤسسات الرسمية، فلا حداثة ولا تحديث من المؤسسة العسكرية أو الحزب الأوحد على عكس توقعات العديد من علماء السياسة في تلك الفترة·
هذه الفصول وغيرها لابد أن تؤكد لعالمنا العربي ضرورة الاعتماد على المؤسسات وأن نراهن على تعزيز دورها لا على سيطرة الفرد على القرار، وعلى أولوية حقوق الإنسان· فسلسلة المحاكمات والتصفيات والظلم السياسي ساهمت في تفكيك عرى النسيج الاجتماعي في العديد من الدول العربية، ولابد من إعادة اللحمة لمثل هذا النسيج، وأما الاختلاف فهو سنة الحياة ولا يجب التعامل معه من خلال محاولة استئصاله، بل اعتبار التنوع مصدر قوة للمجتمعات العربية يؤطر من خلال احترام التعددية وتعزيز المشاركة السياسية·