فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرأي العام العالمي بأن «ظاهرة التنمر» تطورت وتحولت إلى أن تكون نظرية سياسة يمكن أن تطبق على مستوى العلاقات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وذلك عندما طلب من نيكي هالي سفيرة الولايات المتحدة الأميركية أن تسجل أسماء الدول التي تصوت ضد قراره بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، على اعتبار أنه لا يمكن أن تمنح واشنطن المساعدات المالية لدول تقف ضدها. إلى الأسبوع الماضي كنا نعلم أن «ظاهرة التنمر»، التي تعني استقواء طالب أو بعض طلبة المدارس على زميل لهم ضعيف جسمانياً، وكنا نعرف أن هناك جهوداً تبذل من قبل إخصائي المدارس في الغرب تحديداً للقضاء على هذه الظاهرة لأنها تؤدي إلى نتائج سلبية على المجتمع بسبب ممارسة سياسة الاستئساد والبلطجة، بالمفهوم الشعبي، لكن اكتشفنا أن «التنمر» يمكن تطويره إلى أن يصبح على مستوى العلاقات الدولية، وكأننا أمام مرحلة جديدة في تطبيق قيم سياسية على المستوى الدولي، بدأت منذ دخوله الانتخابات الرئاسية. وبالتأكيد فإن طلب الرئيس ترامب أثار استغراب كثير من المراقبين في العالم، لأن أخطر ما في مثل هذه المواقف أنها تعني أن القانون الدولي لم يعد كافياً لمعاقبة دولة ضربت بالاتفاقيات والتعهدات الدولية عرض الحائط، وأن سياسة القوة أصبحت إحدى أدوات الدبلوماسية الدولية، تستخدمها إذا احتاجت إليها في مثل هذه الفوضى، كما أن السكوت عن هذا الموقف قد يعني تفريغ كل المؤسسات الدولية التي جاءت على أنقاض نتائج الحربين العالميتين. إن امتداد نبرة التهديد من دول معينة، مثل كوريا الشمالية وإيران، إلى تهديد المجتمع الدولي هي نوع من الاجتراء على قيم النظام الدولي، وبغض النظر عن مكانة الولايات المتحدة في السياسة الدولية، فإن الموضوع يحتاج إلى التحليل كي نعرف لماذا هذه النبرة باتت واضحة ومستمرة، وما إذا كانت استراتيجية ثابتة ينبغي التعامل معها مستقبلاً، أم أنها مرتبطة بظرفية معينة باعتبار أن ما تفعله الإدارة الحالية لا يعني أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة قابلة به كله، وكي لا يكون الأمر محفزاً لدول أخرى على السير في هذا النهج الذي يقلق الكثيرين، بمن فيهم الحلفاء الغربيون كبريطانيا، وكذلك ألمانيا التي صرح وزير خارجيتها أن بلاده لا تثق بالإدارة الأميركية الحالية. الشيء اللافت في الأمر أن دول العالم لم تأخذ بتلك التهديدات التي تبدو سابقة في العلاقات الدولية، حيث صوتت 14 دولة في مجلس الأمن ضد قرار واشنطن ولم ينقذه إلا الفيتو الأميركي. وبعد أن تمت إحالة القرار إلى الجمعية العامة، حيث التصويت بالأغلبية، صوتت 128 دولة ضد القرار وامتنعت 35 عن التصويت، ما يعني تراجع اقتناع العالم بإمكانية قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي، وهو أمر بدأ محللون في الحديث عنه مثل مفكر العلاقات الدولية هنري كيسنجر الذي ذكر في أحد تحليلاته أن فوز ترامب قد يسرِّع بتراجع الولايات المتحدة. تشابك مصالح الدول واتساع الحاجة إلى التعاون المتبادل في ظل التهديدات والتحديات، دفع إلى الاعتماد على «القوة الناعمة»، باعتبارها الأكثر تأثيراً، إلى درجة اعتقد معها بعض منظري العلاقات الدولية تعذّر نشوب حرب بين الدول، كما أن الشأن الأميركي والقرارات الأميركية ليست هم أميركا فقط، كون الولايات المتحدة «شرطي العالم» والضامن الحقيقي لاستقراره منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلا أن بعض أفعالها قد تدفع بالمجتمع الدولي، بما في ذلك الدول الكبرى الأخرى والدول الإقليمية المؤثرة، إلى الابتعاد عن الولايات المتحدة، إن لم يكن الأمر قد بدأ بالفعل. إن ذلك «التنمر»، إلى جانب إصرار السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، يثبت أن الإدارة الحالية تواجه ضغوطاً داخلية كبيرة لها علاقة بالتورط مع روسيا في الانتخابات الرئاسية، فضلاً عن ضغوط اللوبي اليهودي. إلا أن الأمر أيضاً لا يخلو من وجود بعض الصفات الشخصية التي اتضحت في أكثر من موقف قبل سنوات طويلة من الآن، إذ قد تشتبه في الذهن السياسة الدولية بغيرها من المجالات الأخرى. المهم أن الإدارة الحالية جلبت لنفسها بقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس انتقادات واسعة في العالم، خاصة في أوروبا وفي الدول الإسلامية، وهذا قد يعود إلى قلة خبرتها في السياسة الدولية التي كان يفترض من كبار المساعدين، بمن فيهم نيكي هالي، أن يوضحوا لها بأنه في السياسة الدولية لا توجد القوة المطلقة ولم يعد للقوة الصلبة دور كبير جداً لأنها تتسبب في مشكلات ليس للحكومة المعنية ولكن لشعبها وللعالم أيضاً!