تلقيت ذات مرة رسالة، من ضمن الرسائل البريدية التي كانت، حينها، تفد بكثافة، قبل أن تحجم بفعل وسائل التواصل الاجتماعي. وحدث أني تركتها، مؤجلاً قراءتها من ضمن رسائل أخرى. أقفلت عليها الحقيبة، وغادرت مسافراً، وتعددت حالات السفر، ولم أكن أعلم بأني لن أحتاج الحقيبة، ولن أفتحها إلا بعد ما يقارب العشرين عاماً، وذهلت حين قرأت الرسالة تلك وبدا لي صاحبها شخصاً مجهول الهوية، لكنني قرأت رسالته بتمعن حتى اكتشفت بأننا التقينا على ساحل المحيط الهادئ بأمريكا، ما يعني أن الرسالة تعود إلى عام 1994م حاولت مجتهداً أن أجمع خيوط الرحلة من بين الصور التي التقطتها خلالها، لعلي أسعف بمعرفة هذا الشخص، الذي يروي قصة لقائنا، وهو بمعية زوجته التي يصحبها معه، فتذكرته جيداً، وتذكرت أنني حين التقيته تحدثنا عن ثقافتنا المختلفة، وكان بوده وزوجته أن يعرفا المزيد عن عالمنا ومحيطنا الثقافي، في وقت كانت دولنا يجهلها الكثير من الأميركان.
استعنت بـ «الفيس بوك» لمعرفة ما صار عليه، الصديق المجهول، لعلي أعرف شيئاً عن حياته. طبعاً، وجدت ملامحه مختلفة، لكنه ما زال في نفس المنطقة، شغله الشاغل الصيد، وهو مدجج بأسلحة مختلفة من عدة صيد الغزلان، وينشر صورا لرؤوسها، معلقة على الجدران وصورا للغابات والأنهر والماء الفرات، انتابه الكبر قليلا، ولحيته أصبحت كثة تكاد تخفي ملامح وجهه، وبالتأكيد لا يمكن إلا أن يكون إنسانا آخر، بعد تلك السنوات يتقاسم وزوجته حياة الصيد والرحلات، كما حالة الأميركان الذين يشعرون بحياتهم في الغابات والريف بل ويفضلونها على حياة المدن.
تذكرت حين التقيتهما ونحن نهم بالخروج من كهف سياحي، نزهته تبدأ من قمة الجبل إلى أسفله بسبعمئة قدم، ثم يصعد بنا المصعد بعد رؤية أسود البحر وهي تترامى على الساحل الجميل بمنظر لا يغادر الذاكرة، كما لا تغادره رؤية المحيط الهادر ونسيجه الممتد ما بين ولايات مختلفة من واشنطن وارجون وكاليفورنيا ومدن سياحية جميلة مثل يوجين ونيوبورت وشعابها ومنحدراتها التي ترسم لوحة من جمالية الطبيعة الساحرة.
فكثير من الأصدقاء نلتقيهم وخلفهم عالم من طبيعة الحياة النابضة بالسحر والخيال، فماذا لو استمرت هذه الصداقة ولم يكتب لها القدر أن تولد بين وأد النهاية ودوامة الاكتظاظ؟! لربما بدأت أجمل علاقة تواصل يمكن أن تشرف على عالم من الثقافات المتبادلة والتي كانت تشير لها دلالات الرسالة.
مهما بلغت التقنيات الحديثة فلا استغناء عن ثقافة الإنسان وتصويره الحياة بمشاعره وقيمه الإنسانية المتبادلة.