منذ أن غادرنا العفوية، ونحن نناقض، ونناهض، ونقايض، وندفع الثمن الباهظ في سبيل الوصول إلى مرافئ الطمأنينة، ولا نصل ولا ننفصل عن مختلفات ما تهنا بها، وما تلاشينا في شوائبها.
لو عدنا لعفويتنا، لو صرنا مثل الوردة لا تغير لونها، ولا تبدل عطرها، هي كما هي عند رصيف الشارع أو في الحقل، أو في حديقة المنزل، ترفل بمشاعر الرهافة في أقصى حدود الشفافية، وتحدق في العالم من دون اختباء خلف جفون التكلف أو التزلف، هي هكذا في الطبيعة، مغسولة بماء فطرتها، يطوقها النسيم، فتلثمه بوريقات أشبه بشفاه الأبدية، تحدق في الناس والكائنات، من دون مساحيق تجميل ولا بخور المناسبات الصاخبة.
لو عدنا لعفويتنا مثل الطير، ننظر إلى العالم بعيون صافية، أم تغشها غاشية هلع ولا جزع، ولا جشع، ولا بدع، ولا منع، ولا صدع، ولا رجع، ولا سفع، ولا نقع، لو عدنا لعفويتنا ونحن بأثواب فضفاضة، من غير بقايا ولا نوايا ولا رزايا، لو عدنا ونحن في ولادتنا الجديدة، جنتنا هذه الأرض، وأمنا، وأمننا، وحبنا، وحبلنا السري الذي يأخذنا إلى مشيمة الحياة، ونحن نرفل بصفاء ونقاء.
لو عدنا لعفويتنا مثل الشجرة، تعطي ولا تمن، وتفضي ولا تكن، وتبرز في العالم، من دون تراكم ألوان وأشجان، لو عدنا ونحن في الفيض الزمني أزمان تفيض بأزمان، وشفاه تتلو آيات الحب بلا أحزان، وقلوب يملؤها بياض الشطآن، وعقول ما ناخت لبعير الشيطان وأرواح لم يسكنها شنآن، ووعي بالحب بلا أشجان.
لو عدنا لعفويتنا، ما شاخت فينا روح ولا أشعار، ولا مارت فينا أرض ولا أبحار، ولا مادت ربوات ولا أفكار، لو عدنا وعدنا، وعدنا، لكنا في الكون طيوراً مداها قمم الأشجار، وكنا في الحلم أطيافاً بلا أسوار، وكنا في الزمن شراشف أزهار، وكنا في الزمن ماء الأنهار.
لو عدنا لعفويتنا ما اكتأبت فينا مهج، ولا ذابت قيم الأدهار، ولا عتمت فينا حدقات الإبصار، ولا رجفت، ولا وجفت ولا انسكبت من بين أصابعنا شيم الأطيار، ولا عثرت أمانينا، ولا سغبت مآقينا، ولا قتمت حواشينا، ولا اكتظت بِنَا الأكدار.
لو عدنا لعفويتنا، لذهبنا في الزمن فصولاً من وهج الأقمار، ونسجنا من أهداب الليل قماشات الأدثار، وقطفنا من حلم الأزهار حرير الأبهار، وكتبنا للتاريخ، كيف يكون الحلم بهياً، حين تكون الأحلام فراشات، ترقص للفرح الأزلي.