يخضع الشعر للتطوّر مثله مثل بقية الفنون. وتقوم هذه العملية على مشاركة النقد والنقاد في استقراء وتحليل النصوص بمناهج مبتكرة تعتمد عليها الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. وفي الغرب، تبدو العملية الشعرية وكأنها خاضعة لمنظومة متجددة من الدراسات في اللغة والخطابة والأساليب. هناك باستمرار أطروحات نظرية تفسّر لغة الشعر، وتقيس حركة تطوره عبر تطبيقات يطرحها الباحثون على مستوى التقنيات الدقيقة جداً التي يسمح وقتنا الراهن بقياسها. لم يعد يُفسّرُ الشعر بموضوعاته، بقدر ما أصبح الاهتمام يذهب إلى رصد البنى المعقدة التي تتوالد في القصيدة.
نضرب مثالاً من بحث نشر في جامعة كمبريدج قبل سنوات، وكان يرمي إلى رصد (المقاييس التوليدية واللغوية الأدبية) في النصوص. حيث يذهب مؤلفا البحث نيغيل فاب وموريس هال إلى وضع مجاهر قياس مترية وتطبيقها على اللغة في النص بغية الخروج بنتائج مثل مركزية الإيقاع، أو رصد الإيقاع كتناوب دوري للأهمية في تسلسل هرمي للمستويات داخل النص. ومنها أيضاً توصيف القوالب التجريدية وقياس علاقتها بالنص المكتوب من خلال مزيج من القيود والعمليات. ويتم اللجوء إلى علوم الصوتيات لخلق نماذج وقياس مدى تطابقها في هذه النصوص. ويخلص الباحثان إلى أن الإيقاع في النص ينشأ كمنتج ثانوي من عدد المقاطع وطول الخطوط.
تبدو مثل هذه الدراسات وكأنها تنتمي إلى الهندسة والفيزياء والرياضيات، لكنها في العمق، تحليل كميّ لحركة اللغة داخل النص. يذهب الباحثان لاحقاً إلى تجريب تطبيقات هذه القياسات على اللغة العربية واللغة السنسكريتية لاستنباط متغيراتها في النصوص المكتوبة بشكل هرمي أو معكوس. وتتكون لديهما في النهاية شبكة من الخرائط التي تفضي إلى نتائج جديدة.
الفكرة الرئيسية الثانية التي يطرحها البحث هي أن القوالب التجريدية يتم بناؤها بواسطة إجراء تحليل من الأسفل إلى الأعلى، من أصغر المجموعات والجمل إلى الأكبر، وأن تعيين قالب أي نص محكوم بمجموعة من القواعد التي يمكن قياسها.
عربياً، لم يتقاطع النقد مع هذه الأفكار التي ترسّخ أهمية الشعر وضرورته في تطوّر لغة المجتمعات الحديثة، ولا يبدو أن الأطروحات الجامعية التي تتناول مواضيع الشعرية العربية، تهتم بهكذا دراسات. لذلك، سيظل أحد جناحي تطور الشعر العربي جريحاً، بينما الجناح الآخر، وأقصد به حركة تجديد الشعر والنصوص التي أبدعها الشعراء العرب الجدد منذ خمسين سنة وأكثر، بانتظار معاول التفكيك لاستنباط تحولاتها الفنية الجميلة.