لماذا تصبح حياتنا معقدة؟ هو ذلك الأكسير، هو ذلك الحوار عندما يطفئ أنوار غرفته، ويسد النوافذ، يغيب عن الإنسان الطريق إلى أبواب الخروج من الغرفة المظلمة، ويظل الإنسان يتلطم ويجوس في الحيرة، كأنه سمكة جزر عنها الماء وصارت تهيم في بحيرة الملح، ولا تمضي فترة وجيزة حتى تنفق، وتذهب إلى المجهول.
للحوار لغة، فقد تكون مغلقة إلى حد الاختناق، ولا يملك صاحبها غير الاتكاء على حائط البكاء والصراخ والنعيق والنهيق والنقيق، ومن ثم لا يستطيع أن يجلي عن كاهلة حزمة من الغم والهم، وكم هائل من التغضنات، والانهيارات العصبية، والتي تجعله يعيث فساداً في علاقته بالآخر.
ولكن السؤال الأهم، هو مالذي يجعل الحوار خواراً ودواراً وسعاراً وغباراً يعمي البصر ويشل البصيرة؟ إنه التعالي الذي تبرزه الأنا في وجه الآخر كسيف بتار لا انثناء له ولا انحناء إنه الاعتلاء على تلة رملية عالية تجعل صاحبها لا يرى غير نفسه، وعندما يحدث الآخر، وكأنما يعيد تكرار الحديث مع ذات لا مقابل لها غير هي.
لغة الحوار المبتورة مثل حبل مهترئ أنهكته الريح، فصار يطوح بما يحمله من معنى إلى أن تلفظ الحياة معنى الأشياء التالفة. هذا ما يحدث مع من فقد لغة الحوار، وهكذا يحدث مع من غاص في مستنقع الأنوية العقيمة، وأصبح يهيم في العزلة كطائر فقد طريقه إلى السرب.
حروب عبثية، ومعارك عشوائية يشتد وجيبها، ويذهب على أثرها الضحايا لأن الحوار فقد الزمام، ولأن الأنا دخلت غرفتها السوداء واستقرت في المدلهم ورفست رمال الوعي حتى ثار الغبار، واستعر الأوار، وباتت الحياة مجرد لحظة منطفئة، لا تذر سوى رماد المراحل المتأزمة.
ما يحدث مع من فقد لغة الحوار هو أشبه ما يحدث مع أخرس عجز عن التواصل مع الآخر، فما كان بمقدوره سوى امتشاق الإشارة الغامضة للتعبير عن مبتغى لا سبيل للوصول إليه إلا بحبل اتسخت أهدابه إثر عوامل التعرية.
من يفقد لغة الحوار، يفقد العالم، ويفقد نفسه، ويفقد حنكة الإندماج في الوجود، ولا يجد من موئل سوى البقعة الضيقة بين الضلوع المتهالكة، ولا يجد من صوت سوى صوته المشروخ.
من يفقد الحوار، يسكن أبد الدهر في غابة التوحش، تطارده نفس تعجرفت سجادتها، وأصبحت غرفة القلب مثل كهف مهجور، وضلوع الصدر إعجاز نخل خاوية، وعيناه بلورتين من طين، وأذناه ثقبي إبرة، ووجهه خشاشة بالية، ويداه معقوفتين على بؤرة الخطر.