ربما لم يحدث هذا في عالم الواقع إلا في حالات استثنائية، وفي مكان ما من هذا العالم السحري الفريد، والمدهش.
في مدننا الكبيرة، وعلى ضفاف بحيرات الفرح وعند نواصي أحلام الناس الزاهية، وفي ثنايا الزمن المبهر في هذه المدن التي باتت تسهر على ضوء المصابيح العملاقة، وبين رموش الأشجار الوارفة، وعند شوارع تخضبت بحناء من لدن خالبات الألباب، سالبات الأفئدة.
هكذا تبدو المدن بفضيلة الحداثة مثل محيطات تغسل زعانف أسماكها بالطمأنينة، وترتب مشاعر الموجة ببياض السريرة، وتمضي في الوجود مبهرة مزدهرة، مثابرة باتجاه آفاق شمعتها من خيوط الشمس، حارسة المنجز ساهرة على ثنيات المكتسب بكل لباقة وأناقة.
هكذا هي مدننا تسرك خيولها، وتفيض بين النجود باخضرار القلوب، ونضج المعرفة، وسعة أوعية الثقافة، من غير حدود، ولا سدود ولا قدود، ولا أقنعة، إنها بالغة مجدها، بوجد لا يكف عن مد الخطوات، واعتلاء المجد، والذهاب بالطموحات إلى قمة بهمة الأفذاذ، وعزيمة الجهابذة، وقدرة الذين لا يعرفون لليأس مكاناً، ولا يفقهون للبؤس منطقة، إنهم هؤلاء الذين يؤسسون في الجغرافيا إمبراطورية الحب، وينسجون قماشته من حرير الشفافية، ويخيطون معطفه من فكرة مجللة بالوفاء لكل حبة من حبات تراب مشت على أعقابها خطوات المؤسس، الباني.
هذه هي مدننا ترفل اليوم بسندس السعادة، واستبرق الفرح، مبنية من طين الانتماء مشيدة من عقيق المهج العاشقة للجمال، وطيب الخصال.
اليوم تبدو القصة بكل تفاصيلها وفصولها، وأصولها، وحقولها، نبعاً من نبوع الشعاب، والهضاب، وخضاب الصحراء النبيلة التي رتلت أنفاس عشاقها، وهذبت المعاني، ورتبت المثل، وجعلت من الإنسان على هذه الأرض، وكأنه الطير يخفق بالحب، ويحلق في الآفاق باحثاً عن غيمة النماء في أحشاء السماء متطوراً نسلاً من خلايا ناعمة ترسم صورة الآتي من حبر الشرايين، وتضع اللوحة التشكيلية على صدر الوجود، أسطورية معرفية، وأيقونة لا تشبهها إلا هي.
هكذا هي مدننا، في الاستثناء دوماً، وفي الفرادة دائماً، الدهشة في كل الأحوال، وهي هكذا تغدقنا مدننا بالفرح، وتشذب أوراقنا، بمبراة هي أجنحة الطير، المتدفق شوق السيرة الصلب والترائب، وما بينهما ماء الشغف، وأبدية الحب.
هذه هي مدننا فراشات، أجنحتها من سحابات، وعطرها نفحة أفكار الأولين، وسجايا الذين نحتوا في التراب أسماء، رصعت نجومها في أديم الأرض، ونقشوا اللون زاهياً على سبورة الحياة.