زلّي يا قدم الندم، وتعثّري ألف مرة، لا تحمليني إلى باب الخطيئة، لستُ مجبولاً على الجري حافياً في وعورة ظلامها. الناسُ في لهاثٍ يتناطحون في حلبات الجشع، والغفلةُ سيدةٌ أنيقة في الشاشات الكاذبة، والأقلامُ معاول هدمٍ للرتابة والتكرار، والأوراق خرائط محروقة على طاولات المدوّنين والرواة. لماذا كلما نفختُ على رماد الخوف، استيقظت عينه الجمر وظلت تراقب حيرتي؟ ولماذا كلما أوصدتُ باب التخاصم أبتغي النأي عن التنابذ والذم، أطلّ نمامون من النوافذ، وراحوا يرمونني بحصى الإشاعة وشوك الافتراء؟
انظري إليّ يا مراياي المهشّمة. أنا بعضي، وسأظل بعضي. لا للكمال مسعاي، ولا إلى عتبات الوصول تحثّني خطوتي. فتحت كتاباً عن الحقيقة فأعمى بياضه رؤاي. وأصغيتُ إلى نوحِ طائرٍ على غصن صفصافةٍ، فأدركتُ أن للحزن مكانه في الطبيعة، وأن دورة الحياة تكتملُ بنقصانها. فلا الموتُ هو النهاية، ولا الميلاد هو البدء. والذي يفتّش عن الخلود، إنما هو رجلٌ يحاول أن يقبض على الزمن ويضعه خاتماً في جيبه الصغير. والذي يخاف من الزوال، إنما هو رجل أوهمه الخائفون بأن للدهر نهايةً، وللأفق حداً، وللوقت فناءً. ها أنا أمشي موقناً أن المسافة واحدة لا تقصر أو تزيد، وإنما فقط يتغيرُ الدربُ، وتتبدلُ ألوان أزهاره على الجانبين، ويلتوي وينحني، ولكن يظل ممتداً هكذا إلى الأبد.
صفّق لي عالياً، أيها الجالس وحدك في مسرح الفراغ، وأنا شبيهك الوحيد على الخشبة. وعليك أن تضحك كلما رأيتني أبكي على الوجوه التي تغادر، ويشطبُ النسيان اسمها من ذاكرة القلب. وعليك أن تبتسم إذا رأيتني أقلّب ألبوم الذكريات بحثاً عن طفولة تلاشت، ولم يبق من أماكنها سوى الحنين الغامض إلى شيء ما. كلانا بطلٌ في مسرحية الضد هذه. أنا أقطف الثمرة التي اسمها الحكمة، وأنت تأكلها هانئاً. أحفر عميقاً في القواميس لعل معنى وجودي هنا يتّضح، لكن ظلالكَ تحجب الضوء. وسيكون لزاماً عليّ أن أصمت، كي تنطق أنت ببقايا الكلام، وأن تتهجّى نصف اسمي. هكذا نتبادل الأدوار في لعبة المكاشفة، كي نكمل المشهد الأخير الذي لم يبدأ في الأصل، ولن ينتهي.
أحياناً، أنت ترى الغيمة، وغيرك يراها المطر. وتنظر إلى النافذة، وغيرك يراها لوحةً في الجدار. وحين تفتح كتاباً وتفتّش عن الكلمات التي تفسّر لغز الحياة، سترى وجهك يحدّق بك ولكن بعينين غريبتين، وبلسانٍ لا تفهمه ولا يفهمك.