في روما القديمة انقسم المجتمع بين «نُبلاء» مسيطرين تعود أنسابهم للشرفاء ممن يملكون مقدرات اقتصادية ومكانة سياسية وحظوة دينية، وبين «دهماء» لا يملكون تلك المقدرات، ومُسيطر عليهم. ومن بعض مظاهر هذه السيطرة في ذلك الوقت أنه لم يكن مسموحا للدهماء الاطلاع حتى على القوانين التي تُُسير أمورهم! والحقيقة أن كل حضارة إنسانية شهدها التاريخ كانت - بشكل أو بآخر- فيها هذه الطبقة من الناس ممن لا قُدرة لهم في التأثير على واقعهم بسبب حجب مصادر المعلومات عنهم! ولكن هل يعد هذا الطرح مقبولا الآن في ظل الوفرة المعلوماتية ولا نهائية المنصات التي توفرها؟!
إن استسلامنا المتعمد لإغراء الكسل واللامبالاة، يجعلنا نتوقف عن طرح أسألة في غاية الحساسية، من قبيل: كيف.. ولماذا؟ نشتري جهاز الحاسوب الذي يعالج كل العمليات اللغوية والحسابية دون أن نتوقف عند سؤال، كيف يقوم هذا الجهاز الأصم بذلك؟ نذهب إلى متجر «آبل» لنحظى بآخر هاتف محمول يقدم ميزات غير مسبوقة في عالم التصوير، دون أن نفكر للحظة كيف تعمل هذه التقنية؟ نُصاب بالإعجاب الشديد بفريق «آبل» ونصفق لساعات لإعلان منتجهم الجديد دون أن نتوقف لحظة واحدة في طرح سؤال «لماذا تمكن العاملون في هذا الفريق من الوصول لهذه النتائج دون غيرهم من العاملين في العلامات التجارية الأخرى؟»؛ نتبادل أخبار المنتج عبر حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، ونسرع لحجز هواتفهم حتى قبل أن تصل إلينا، ولا نسأل، «كيف هي ثقافة المنتجين لهذه السلعة وما هي دوافعهم، وما الذي يتبادلونه من أفكار ورؤى قبل وبعد إصدار هذا المنتج، ولماذا هم مؤثرون علينا إلى هذه الدرجة؟
إن التغاضي عن هذا النوع من الأسئلة يجعلنا نفقد القدرة مع الوقت على التحكم بمقدراتنا ومستقبلنا، ويحولنا إلى مجموعة من «الدهماء». كيف؟ ولماذا؟ أسئلة يجيد صناع الذكاء الاصطناعي استخدامها دوما، كما يستخدمها المؤثرون الحقيقيون على واقعنا، فيما يبقى الأغلبية منا في انتظار ما سيسفر عنه إنتاج «النبلاء الجدد» من المبدعين والمبتكرين. فهؤلاء «النبلاء» يقرأون وينتجون الكتب التي نسعى وراء خلاصتها عبر محرك البحث جوجل، وينتجون لغات رقمية جديدة كل يوم لبرامج جديدة لا حصر لها لتسيير معاملاتنا وتفاصيل حياتنا؛ إنهم من يكوِّنون فرقاً كبيرة تتبادل المعارف والعلوم فيما بينها لطرح أدوات جديدة سنتعامل معها «بكل طواعية» وبترحاب مطلق في ثوان عبر أجهزة لصيقة بنا وبأبنائنا. لهذا هم «النبلاء» وبالتالي نعلم جميعاً بطبيعة الحال.. من هم «الدهماء»؟!