قليلون جداً ممن حولنا يمتلكون عتاداً عالياً، يؤهلهم للنفاذ إلى نفوس الآخرين، ومن ثم التعامل معها عبر فهم مسبق لسلوكهم المتوقع بطريقة نافعة، يمتلك هؤلاء الناس ما يعرف علمياً بـ«التقمص الوجداني»، وللأهمية البالغة لهذا الشعور، تولي النظم السياسية الغربية اهتماماً منقطع النظير لبرامج الإدماج الاجتماعي والاقتصادي. وتقدم في تحقيق ذلك ميزانيات مهولة، سواء كانت هذه البرامج موجهة للأفراد الجدد المهاجرين واللاجئين القادمين إلى مجتمعاتها، أو لبعض الفئات المحلية التي عانت أو تعاني تحولات اجتماعية أو نفسية قد تنحو بهم بعيداً عن مجتمعاتهم، وهي برامج لا تقدم بدواعي التعاطف والشفقة، وإنما من باب السعي لتمكينهم وإدماجهم للصالح العام.
بدأت هذه البرامج منذ وقت مبكر في المجتمعات الغربية، وقد فرضتها مجموعة من القيم الديمقراطية الداعية لأهمية كل عنصر إنساني في تسيير وكمال المجتمع وإنتاجه بشكل عام؛ وبسبب -وهو السبب العملي من وجهة نظري- إدراك هذه النظم التداعيات الخطيرة المحتملة لتفاقم حالات الشعور بالتهميش والنبذ والإقصاء لدى الأفراد أو الجماعات على المدى الطويل.
في مجتمعاتنا العربية، تعد هذه المشاعر مشكلة شخصية، يتحمل مسؤوليتها من يشعر بها وحده، وهنا تكمن الخطورة، خصوصاً مع وجود قيم ثقافية متوارثة، تحث على العطف على الفقراء، وغيرها من الالتزامات التي تجعل الغالبية العظمى من الناس ممن يؤدونها في راحة، غير مهمومين بما لدى غيرهم. لا تتملك مشاعر التهميش والنبذ الأشخاص بسهولة، فهي تنمو بعد مجموعة من التجارب والخبرات التي يتعرض لها الإنسان بشكل متتالٍ، تجعله يمر بمنعطفات تترك آثارها النفسية العميقة عليه، كما أن مشاعر من هذا النوع لا تتوالد في الأشخاص العادين، فأولئك الذين لديهم اعتداد شديد بأنفسهم، ولديهم قدرات ذهنية خاصة وكاريزما، وكذلك غيرهم من أصحاب الطموحات، هم الأكثر عرضة لهذه المشاعر، إذ عادة ما يميل العاديون والبسيطون إلى عدم الانتباه المبالغ فيه لأي حالة من النبذ الاجتماعي أو التهميش الاقتصادي أو الإقصاء السياسي، وهذا ما تثبته الحقائق التاريخية؛ فطالما كان الفقراء والمدقعون والمهمشون موجودين، غير أن التاريخ السياسي لم يشهد أي تحرك يذكر لهم، إلا بعد تزايد وتزامن ظهور أفراد لديهم تلك الصفات الخاصة -وليس بالضرورة أن يكونوا فقراء أو معوزين- يستطيعون إلهام الآخرين وتحريكهم، وهنا مكمن الخطر.