يحدث هذا الالتباس دوما حول تعريف القصيدة والشعر والشاعرية· فكل كتابة تنسّق عموديا كشكل تسمى قصيدة، وكل قصيدة بهذا المعنى تسمى شعراً، وكل شعر بهذا المعنى أيضا تضفى عليه صفة الشاعرية· حقيقة الشاعرية لم تدرك بعد ولم يستطع علم أن يعرفها إلا بوصفها منجزاً تم في صيغة نص (لغة شعرية)· ذلك أنها كالحياة تدرس تمظهراتها لكن لا يدرك سرها· وإذا تساءلنا (ما الشاعرية؟)، كأننا نتساءل (ما الحياة؟)· إذ أن الشاعرية ليست بناء لفظياً، ليست قولاً عادياً مركباً من أحرف وكلمات وأفكار، فهذا كله ينطبق على السرد، على القصدية، على فكرة أو غاية يقرر الكاتب أن يوصلها إلى القارئ ناصحاً او معرفاً أو شارحاً لموضوع ما·· الشاعرية حالة تسبق الفكرة، تسبق الغاية، وتسبق الكلام والصورة· الشاعرية تأتي دون قرار مسبق، تأتي محملة بكلماتها بفكرتها وبصورتها·الشاعرية لا تكمن في الوضوح، بل تخطف الشاعر من حال يكون عليه، إلى حال يصير إليه· هي برق يضيء كوامن الشاعر ويمضي تاركاً في اللغة وهجه وفي الصورة جنوح الخيال وفي المعنى تعدد ينغلق فلا يدركه السبر ولا التعريف المحدد، بل يشكل فضاء شاسعاً للتأويل· والشاعرية بهذا المعنى تأتي كزائر أو طيف عابث يضيء الشاعر ثم يغادره تاركاً فوضاه نقشاً على الورق يعرّف باسم (قصيدة)· والقصيدة حديثة كانت أو قديمة، في أي ركن من العالم هي رداء فضفاض وقالب شكلي قد يحتوي الشاعرية أو يفرغ منها· لذا قال العرب في تعريف القصيدة بأنها (الكلام منظوماً قصداً) والنظم بهذا المعنى هو تنسيق الكلام أو ترتيبه في قالب يتفق عليه في كل زمن· وفي التراث الشعري العربي ثمة آلاف من القصائد هي نظم للكلام في أي موضوع قصدي كالموعظة ودروس النحو والمديح وغيرها من الموضوعات التي صيغت في قالب منغم بغية تسهيل حفظها في ذاكرة المتلقي· لذا فليست كل قصيدة هي شعر، وقد يتماهى السرد أحياناً بالشعر حين تضخ في نبضه الشاعرية، ويسمى في هذه الحال (نثراً) أي انه الشعر منثوراً بدل أن يكون منظوماً في قالب شكلي ثابت التقنين· وهنا يلفت الانتباه التباس آخر بين مفهومي السرد والنثر لدى كثير من الشعراء الجدد في إطار مفهوم الحداثة· إذ نقرأ سرداً لنسق عمودي على الورق ليقال إنه شعر، فإذا ما نسقناه أفقياً لا يكون أكثر من سرد عاد يفتقر تماماً إلى همسة الشاعرية· وقد نقرأ مقالاً قصد أن يكون سرداً فنستشعر نبض الشاعرية في متنه لندرك انه شعر منثور· لذا لا يمكن المقارنة بين قديم الشعر وجديده في الزمان والمكان والحضارات· فالشاعرية في شكلها المنظوم أو المنثور سيرورة إنسانية مطردة، لها دلالاتها وإيقاعاتها ولغتها ورؤاها وفق حركة هذه السيرورة حضارياً وثقافياً· أن لكل مجتمع وعصر وحضارة شاعريته وقصيدته التي تنبع من مجمل ثقافته وحضارته وقدرته الإبداعية·أيضا ودوما، في كل زمان ومجتمع ثمة شاعر أو أكثر يتجاوز حاضره في نصه الشعري بما يشبه الرؤيا والنبوءة والإشارة إلى المستقبل· الشعر بعض تنفس الورد، والشاعرية جدلية فيزيائية بين الطبيعة بعناصرها وكائناتها، والكائن الإنساني· وفي هذه الجدلية ينكشف للشاعر سر العناصر وسحرها، وثراء الكون والحياة· hamdakhamis@yahoo.com