كلما هبّت ريح الشمال، واشتد هبوبها وعسفها وارتفع الموج وأخرج زبده الذي لا تعرف إن كان ابتسامة أو هو زبد الغضب والتعب، تحضر تداعيات كثيرة بعد أن قصّ علينا ذلك البحاّر العتيق عن أهوال البحر وخطر الريح والعواصف والأمواج في زمنه المعتق في الذاكرة، وكأنه يحسدنا الآن على هذا الزمن الرخو، قال هكذا، زمن رخو جداً وفاقد الملوحة والعزم الشديد، لا مقارنة بين ماضي البحر وحاضره الآن، بزخرفته وزينته وسهولة اقتحامه والإبحار فيه بيسر دون عناء أو تعب، لا خوف من الأمواج والرياح والعواصف ومفاجآت الطبيعة. كان يحكي عن زمنه وكيف نجا والبحارة أكثر من مرة من هلاك حتمي، ثم سرد إحدى حكاياته مع الريح والأمواج وغضب البحر، وكأن حكايته نموذج لنا، حتى نعرف أهوال البحر ونقارن حاضرنا بالماضي.
قال: وهو ينظر إلينا بأننا لا نشبه أولئك البحارة القدامى، حيث الأكف الآن ناعمة ولا أثر لتشققات سحب وجرِّ الحبال، والأقدام أيضاً ناعمة لا تعرف تشققات الدروب والسير حافياً على الرمل أو الصخور، والهندام والملابس بيضاء ومكوية ولامعة، لم يلطخها دهان «الصل» أو دماء الأسماك ولا حتى القار الذي يحذفه البحر، قال موجهاً الرسائل التي وصلت إلينا وعرفنا مقصده وأخرى لم تصل بعد عند بعضنا. ضرب أمثلة كثيرة كلها من تجارب البحارة القدامى وختمها بشعر شعبي حفظناه عن ظهر قلب من كثر ترديده «البحر له ناس لفيحه يعرفون التوح من اليره هوب كل من تاح سريحة قال هذا خيط بايره».
بعد درسه البحري قال قصته القديمة جداً
- بين دلما وصير أبو نعير، وفي بحر أزرق داكن كان يبحر زورقنا «الجالبوت»، هبت عاصفة قوية وشديدة العصف والسرعة، ارتفعت الأمواج وارتعب الجميع من تحطم القارب وتمزق الشراع، لكنني صرخت في البحارة بأن يلزموا أماكنهم، وأن أتولى القيادة والإمساك بسكان/ دفة القارب وأن أتحمل مسؤولية الإبحار، آمراً بعدم إنزال الشراع. كان القارب يختفي بين الأمواج التي ارتفعت مثل الجبال مع صفير العاصفة. قدت القارب بمناورة خطرة وهي أن أنزلق مع الأمواج دون معاكستها وأن لا ألتفت أو أهتم للمياه التي تعبر الزورق من كل اتجاه، وأيضاً لا ألتفت لصراخ البحارة، كنت ثابتاً ومركزاً على المناورة، استمر الوضع والوقت طويلاً ومرعباً حتى ذهبت العاصفة، كان الله معنا مستجيباً للدعاء الذي يردده الجميع على ظهر القارب.
وصلنا إلى الساحل بسلام، وبعد مدة عدنا إلى البحر لنكمل دورة الحياة دون خوف.. كان يقدم لنا درساً وأمثلة بأن الحياة هكذا تحتاج أن يستمر الكفاح معها، وأن لا يثنينا أي عارض أو طارئ، وأن نكون أقوياء في وجه الشدايد، ولا نركن لنعومة العيش هذه وإنما ننظر إلى البعيد، وأن نحمل عزيمة الرجال أولئك الذين صنعوا التاريخ والحياة والأمل على هذا الساحل.