في الصحراء القديمة، حيث الرمال الصفراء والحمراء والبيضاء، في الأزمنة البعيدة جداً، هنا حيث الربع الخالي، وما يحيط به من كثبان رملية ممتدة على اتساع مسافات بعيدة، وأيضاً، حيث الحكايات القيمة من النوق العصافير إلى غزوات الصحاري وحكايات الشاب الأسمر منذ غابر الأيام، عندما قطع الصحراء لإحضار مهر معشوقته وقصائد عنترة وحروبه ونشيده الممتلئ بالعاطفة والحب وأيضاً القتال والحروب.
قال الكثير من روائع القصائد، والتي ما زالت حتى هذه الأيام قوية تشع بالفخر والقوة والعزة، ذكر خيله وحصانه الرائع، ذكر سيفيه وانتصاراته وأهميته في قومه، سطر أروع الأبيات والقصائد في محبوبته وصحرائه ودروبه الكبيرة، ولكن لم يذكر الوردة أو الزهرة، فقط لمعان السيوف وصليلها وأصوات حوافر الخيل، هل لأنَّ العشق القديم يختلف عن هذا الذي نسمع عنه ونراه من خضوع وبكاء وورد يقدم ويهدى صباح مساء، ذكر الورود والأزهار في قصائد أهل الصحراء يبدو جميلا هذه الأيام ربما للمتغير الكبير في هذه البيئة الصحراوية، ولكن ألم يكن للصحراء ورود وأزهار لتلفت العاشقين والمحبين قديماً؟ وهل الرومانسية في القوة والحروب أو صعود التلال والكثبان الرملية، ثم تلاوة قصيدة الحب؟ عندما يقول الشاعر: «برقاروس الشرايف، ما ينزل في الوطاه».
هي صورة شعرية وتأثيرها أقوى من صفة أخرى، هل هي بقايا العزة والافتخار بالنفس والكرامة الشخصية؟ بالتأكيد نعم، إنها إرث عربي قديم جميل أن يستمر، ولكن تغيرت الصورة والحياة وأدبيات الخطاب، الآن العاشق والشاعر والمحب لا يفعل غير الخضوع والتذلل والدفع بالصورة الجديدة التي لم تعهدها الصورة الشعرية في الصحراء، يقول مثلاً بعضهم «أقدم لك وردة حمراء» والآخر ينام ويصحو على الورود البنفسجية أو الصفراء أو البيضاء، ولكن أيضاً ألم تتغير الصحراء فعلاً؟ نعم لم تعد صحراء العرب والربع الخالي ورمال الجزيرة العربية تلك التي تنتظر المطر لتخرج الأرض والطبيعة الصور الجميلة الآمنة والمؤثرة بقوّة في المشهد الشعري على الأقل، قديماً احتلت الصورة جمال زهرة الخزامى والورود الصغيرة الصفراء التي تظهر بعد المطر، ومع ذلك لم تدخل الصور الشعرية غير أزهار الخزامى لرائحتها الزكية، الآن في محيطنا الصحراوي تأتي وردة الجوري الحمراء وأزهار وشجيرات مزهرة، تغيرت الصورة والحياة وتغيرنا معها، اختلف الناس كثيراً في التصور والخيال والشعر وحتى في الحب، الآن نحمل باقات الورود والأزهار ونجتهد كثيراً لتلميع صورنا وشخوصنا، ولم يعد الشاعر المحب ذلك الذي يقدم برهاناً على حبه بقوّة حضوره في ميدان الحياة العملية، ولكن بقصيدة ينشدها وهو نائم على الأرائك والوسائد وناس تجهز له كل شيء وهو السارح والهائم في خيالات كاذبة، أين هذه الصحراء من قديمها وأين منشدها؟!