السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

النبيذة

النبيذة
27 يونيو 2019 00:01

 سال عرق بارد على ظهري لما اتصل بي المرافق هشام للمرّة الأولى.
ست وديان، أنت مدعوة غدًا لحفل صغير في نادي اليخوت. وحدك.
بدون الدكتور؟
التعليمات هكذا.
يدور المرافق على ساحات الجامعة. يمرّ بحفلات النوادي الخاصة. يقف على أبواب مدارس البنات. يعاين ويختار. القامة. الشعر. الأسنان. المشية. يتفرّج ويكشف مثل طبيب ممنوع من مدّ يده إلى المريض. لا مشاعر له. ممنوع على هشام أن يتأثّر أو يُعجب بإحداهنّ. أن يتطلّع لها بنظرة غير مُحايدة. الشعور والتأثر والإعجاب من حقّ الأستاذ وحده. وهو وسيط لا غير. ناظور استطلاع. سمسار بدرجة حارس شخصي. قوّاد بالعربي الفصيح. لابد أنّه كان يراقب يوسف عندما لمحني معه في الكليّة. لا يُمكن أن يكون رآني في الفرقة السمفونيّة أو في حفل لمدرسة الموسيقى والباليه. أمثاله يفضلّون رقص الهَجَع. فزعت حين تجرّأ ودعاني وهو يعرف أنّني خطيبة أستاذ أستاذه. صداع يضغط على رأسي والصورة تتضّح أمامي. لو لم يرضخ خطيبي لما تجرّأ هذا النكرة عليَّ. ماذا فعلت بنا يا يوسف!
أخفيت عنه حكاية الحفلة وذهبت بمفردي. حسب التعليمات. خشيت أن أُخبره فلا أجد منه ممانعة. كنت أسمع من صديقاتي عن عائلات عريقة يتوسّط أربابها للحصول على اشتراك في نادي اليخوت. إنه جواز سفرهم لعالم الصفقات وحياة الرغد والأسفار. يكفي أن يقال عنهم إنهم من جماعة الأستاذ حتى تُفتح لهم الأبواب. تنمو لهم هالات فوق رؤوسهم فيفزع منهم البسطاء ويخشاهم أولئك الذين يقال عنهم «من أهل الله». ملايين تمشي لصق الحائط. تدعو ربّها ألا تقع عليها نظرة شرّ فيدخل اسمها في السجلات الأمنيّة. يلتحقون بالحزب مؤيدين وأنصاراً. مراتب لا تكفي لأن تفقأ أعين الخوف الذي يترصّد الجميع. وقد كان حالي من حال كل الناس. تلقّفتني يد الخشية منذ صغري. رضعتها وكبرتُ ولم أُفطم.
ارتديت أكثر فساتيني حشمة. ربطّت شعري الطويل. لم أتزيّن ولا تحلّيت بحلية. تناولت شالًا أسود ولففته على كتفيّ. قلت لأمّي إنني ذاهبة لحفل زواج زميلة لي وقد أتأخّر.
عرس وأنت بهدوم عزا؟
عند الشارع العام أوقفت سيارة أجرة. خجلى وأنا أخبر السائق بالمكان الذي أقصد. أتخيّله يشتمني في سرّه. يبصق عليّ. أو يتفّهم ويُشفق. يقودني إلى المسلخ. يخشى ألا يعود سالماً. يتوقّف ويتركني قبل البوابة بمسافة. المكان مُطوّق برجال بالزيّ المدنيّ. لا سيارة تقف قريبًا. أمشي بهدوء مُصطنع وأجتاز الباب الخارجيّ. أرفع رأسي فارسة تتسلى بالوهم. لا أحد يعترضني. كأنهم يعرفونني. ذاكروا وجهي. هل لديهم صور كل المدعوين؟
يُجلسني هشام إلى طاولة مع عائلة أكثر توتّرًا منّي. شابتان جميلتان مع شقيقهما المراهق. الأولى سمراء والثانية شقراء اصطناعيّة. لا نتبادل الأسماء. نكتفي بالابتسام المتواطئ. الكلّ يتستّر على الكلّ. صخب ورقص وموسيقى. تهمس البنت الجالسة بجانبي أن الأستاذ جالس فوق. شرفة يطلّ منها صاحب الدعوة على رعاياه في الأسفل. تعود الشقراء الاصطناعية لتهمس كلامًا لا أتبيّنه. تصرخ في أذني أن الأستاذ جاء قبل الجميع. هناك منصّة تتحرّك بالكهرباء، رفعته مع كرسيّه المتحرك إلى فوق.
كلّنا سمعنا بالحادث الذي تعرّض له. تصلنا الأخبار ونصمّ الآذان. لا دخل لنا بما نسمع. نعامات ندفن رؤوسنا في رمال خوفنا. جيء له بأطباء من روسيا، جراحين من كوبا، جهابذة أعصاب من فرنسا. لم يمت. عاش وظلّ مشلولًا. يستخدم كرسيًا مصنوعًا في اليابان خصيصًا له. يتحرك ببرامج إلكترونية تُيسّر تنقلاته وتلبّي طلباته الغريبة. تؤمّن له ممارسة هواياته. يقيم الحفلات ويدعو لها عائلات مختارة. يبتهج وهو يرى علية القوم خاضعة لنزواته. نجح في تطوير ساديّة قصوى. يسبق المدعوين ويجلس في مرتبة أعلى. لا أحد يراه منقولا
على رافعة. مثل كيس إسمنت.
جارتي في الطاولة لا تتوقّف عن الهمس:
لا تخافي، اخطفي نظرة إلى فوق. إنه يرتدي بدلة غريبة...
انكمش ويقشعرّ جلدي. أنظر في ساعتي فلا أرى عقاربها. الوقت طويل والموسيقى زاعقة. دوم! دوم! دوم! يخيّل لي، فجأة، أني سمعت نشازًا. أرى الراقصين يتبعثرون. بنات يختبئن تحت الطاولات. يهرع مُرافقون إلى مكاننا. يطلبون من الجالسين في وسط الحديقة زحزحة كراسيهم إلى اليمين والشمال. تتخلخل الموسيقى ويفزعني صوت صليات رصاص. أرفع رأسي بدون وعي وأتطلّع إلى الشرفة. أراه واقفًا وبيده رشاش موجّه إلى الأفق. يطلق النار فوق رؤوسنا. تئز طلقة قريبًا مني. أهلع وأطيع المُرافق وهو يسحب كرسيي والطاولة نحو أقصى اليمين. يتداعى كأس العصير وينسكب على قدميّ. تنقسم الحديقة في ثوان قسمين. وفي الوسط، يخلو ميدان الرماية لنزق الأستاذ. تعود الشقراء من حلبة الرقص وهي ترتجف.
رأيته واقفًا مع الرشاش.
وأنا أيضًا...
يقولون إنه يستخدم هيكلًا معدنيًا تحت الثياب.
ماذا؟
جهاز يتحرك إلكترونيًا، يساعده على النهوض.
يمرّ مُرافق برتبة عقيد على الطاولات. يدعو الضيوف للسلام على الأستاذ.
بالترتيب رجاء... واحد واحد.
نسير مثل صفّ مدرسيّ نحو الدرج الداخلي. ترتقي بدلات السهرة والسموكينغ السلالم الرخامية بأناة. دمى بلاستيكيّة مُجوّفة. مُفرّغة من أرواحها. رسوم مُتحرّكة. نشترك جميعنا في فيلم كرتون. يتقدّم الطابور من مكان الأستاذ وأراه يسلّم على البدلات الرجالية بهزّة رأس. يتمهّل أمام الفساتين. يصافح من تروق له. مدّ لي يده فمددت كفًا واهنة. لم أفهم هل ابتسمَ لي أم كشّر. واصلت السير مع الرتل. نزلت الأدراج جريًا. هواء الحديقة مكتوم. الليل مكتوم. شوارع بغداد مُكمّمة.
سأسحب شهيقي في حديقة بيتنا.
...............................
* مجتزأ من رواية «النبيذة»، القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2019.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©