السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أبطال الحضارات الأولى

أبطال الحضارات الأولى
27 يونيو 2019 00:01

يحتج معارضو نظرية «العوامل» أن هناك شبكة كونية تؤثر في كل شيء، وعندما نختار منها «عوامل» نكون قد حوّلنا المسألة الإنسانية إلى مسألة ميكانيكية خالية من كل ما نسميه التداخل المتفاعل، بالإضافة إلى أن هناك تأثيرات خفية لا يلتقطها البشر إلا بعد ردح طويل من الزمن.

لقد تبيّن أن بعض الأوبئة والأمراض لا تتعلق بجراثيم الأرض وحدها، بل هناك أشعة كونية تعمل على تخليق هذه الجراثيم أو الفيروسات، فموجات الكريب والإنفلونزا والطاعون من صنع أشعة كونية، فتكتسح الجائحة قارة أو ربما أكثر كما حدث في القرن الرابع عشر، عندما انتشر الطاعون. وتراجعُ الطاعون لم يكن بسبب تعاطي أي دواء، ولا اتخاذ أي تصرف، وإنما انتهى مفعول الأشعة الكونية، بسبب حركة الأجرام السماوية، فانكفأ الوباء، من دون أن يكون للإنسان أي تأثير في ذلك.
ثم أليست الشبكة الكونية هي التي تصنع الربيع والخريف والصيف والشتاء؟ وهل في مقدور أحد أن يختار بعض التغيرات التي تحدثها هذه الشبكة، من دون أن تكون لديه شكوك في أن العوامل التي أهملها قد تكون أخطر من التي اعتمدها؟
ثم هل العلم صانع الحضارات أم الأدب، أم الاثنان، وما نصيب كل منهما؟ على أن الملاحظ أن قاطف ثمار الحضارات وموجهها الأسوأ والأردأ، نقصد الإنسان، يدّعي أنه وحده باني الحضارات دون سواه. لكن هذه النظرة طفقت تتراجع، منذ القديم، وكل الشرائع إنما وضعت لوقف الفساد البشري وليس غيره.

عوامل مؤثرة
من هم أو ما هم صنّاع الحضارة؟ إن أردت الحصر وقلت كل شيء يسهم في الحضارة من التربة والماء حتى الإنسان والسماء والقوى المجهولة التي تخيّلها القدماء، فلا نكون قد فعلنا شيئاً. ولذا لا بد من أن يختار المرء، انطلاقاً من تقديره ونظرته أهم العوامل التي يراها مؤثرة في الأمم وحضارتهم. وعندما نقول إن الكتب، أو الآداب أو العلوم، أنشأت الحضارة، فإن في هذا نوعاً من التناقض الظاهري على الأقل فكيف تنشئ النتيجة المقدمة؟ كيف للكتب أو العلوم أو الآداب أن تؤسس حضارة في حين هي نفسها لا تظهر إلا خلال مشوار طويل من الحضارة؟ أليس الأجدى أن نقول إن للأدب أهدافاً نبيلة لا تتغيّر مهما تغيّرت الحضارة؟ لا بد إذن من أن نختار ما نراه مؤثراً في إرساء الحضارة بوجوهها المختلفة، فاختراع البزال أو العجلة على سبيل المثال جعل النماء في الفكر أكثر من الكتب والتعاليم والمواعظ في ذلك الزمن. وفي هذه الحالة ليس من عمل سوى الاقتصار على الكبار من صنّاع الحضارة، ونظن أنهم أو لنقل إنها أربعة: الحمار والحصان والبارود والإلكترون. وإذا رغبنا في وضع مقابل أدبي لأولئك الصناع قلنا: الأدب الرعوي والأدب الفروسي والأدب الإمبراطوري والأدب العولمي. أما ما يشارك هذه الأبطال الحضارية فأكثر من أن يحصى، مع التأكيد أن أخطرها كان الإنسان، قاطف ثمار الحضارة ومفسدها في آن، ومن السخرية أن الأداة هي التي تنشئ الحضارة، والإنسان يفسدها، والدليل أن العصر الذهبي لم ينته إلا عندما استخدم الإنسان الحصان للحرب.

العصر الذهبي
لا تزال جمعيات الحمير حتى اليوم منتشرة في عالم الثقافة، وقد انتسب إليها في مصر معظم الأدباء والمفكرين كطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد لطفي السيد وإسماعيل مظهر وعباس محمود العقاد... وانتشرت في بلاد الشام بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أن الظروف الطارئة قضت عليها. وآخر قرار سمعنا به لجمعية «حمير باريس» كان وقت غزو العراق، فقد أقدمت الجمعية على طرد رئيس الجمهورية ميتران من عضويتها، بسبب مشاركته في الحرب، واستقال وزير دفاعه انسجاماً مع موقف الجمعية فلم يطرد. إن كل التطورات التي أعقبت حضارة الحمار لم تمح ذكر هذا المخلوق النبيل من سجل الثقافة الإنسانية. وتراث الحمار معروف منذ القديم، وبخاصة في الشرق، فجميع الأنبياء يمتطون الحمار، رمز السلم والأمان، ولا يركبون خيلاً، رمز الغزو والسبي، وكان الخليفة علي بن أبي طالب يأبى أن يعتلي ظهر حصان، وسليمان الحكيم على حبه وهوسه بالخيل لم يمتط صهوة جواد أمام أعين الناظرين. كان لديه من الخيل في إسطبله الخاص أضعاف ما لديه من الجواري والنساء في جناح الحريم، وكان حبه للخيل يفوق حبه للنساء، حتى أنه في كثير من الأحيان يمضي وقتاً طويلاً يتأمل في أنواع هذه المخلوقات، وكان لا يعتلي إلا ظهر حمار أمام الناس. فالحمار مطية الأنبياء، حتى أن المسيح عندما أراد دخول أورشليم في عيد الشعانين اختار «حماراً ابن أتان» ولم يختر حصاناً من الخيل التي كثرت كثرة هائلة أيام الرومان.
وتابع الأدباء على مرّ العصور، تكريم الحمار الذي خلق معالم مجتمع أركادي. فحضارة الحمار هي الحضارة «الأركادية» حضارة الثورة الزراعية التي أنهت تنقل الإنسان وضياعه، وجعلته يستقر في مجتمعات بسيطة سعيدة، لا همّ ولا غمّ، مثل سكان أركاديا، التي أكثر الشعراء من وصفهم ومن الأمنيات بعودة عهدهم. وقد تحدث الكثيرون عن شخصية الحمار بأنه «يعمل حسب طاقته، ويأخذ حسب حاجته» وهو المبدأ الأرقى للحضارة، وهو بعمله لا يترك فرصة للسلب والنهب، فلا يمكن لمستخدم الحمار أن يسلب وينهب، فالطفل الصغير يمكن أن يلحق به ويضبطه في فعلته الشنيعة، والحمار هو الذي رسم الحدود الزراعية وفتح الطرق التجارية في كل أنحاء العالم، ويكفي أنه هو الذي شقّ فيما بعد طريق الحرير، الذي دمره بعد ظهور الحصان الحربي، قطّاع الطرق.
بالطبع هناك أدوات أخرى شاركت في هذه الحضارة كالثور والبقرة والمحراث... لكن البطل الحضاري الأول كان الحمار.
والأدب الذي أوجدته حضارة الحمار هو الأدب الغنائي، الذي كان ولا يزال أساس أي أدب، منذ نشيد الانشاد وحتى اليوم، منذ هسيود وكتابه «الأيام والأعمال» ومنذ فرجيل وكتابه «الرعويات» وحتى هذه الساعة، فالشوق والحنين إلى السعادة والراحة والسلام... التي نشأت عن تلك الحضارة لا تزال تداعب خيال الشعراء، فما من عجب إن اتخذ الإغريق كؤوس الخمرة على شكل رأس حمار، لتذكرهم، إذا ما لعبت الخمرة في رؤوسهم، بأن يكونوا متماسكين هادئين، برزانة تقيهم من المجون، ولا غرابة إذا أسس الأدباء والفنانون جمعيات الحمير في العصر الحديث، للحض على المبدأ المثالي «من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته» الذي تعلمه الإنسان من الحمار، منذ أقدم العصور، يوم كانت كلمة جحش القوم تعني سيدهم الخادم لهم.

العصر البرونزي
الحصان ممثل المرحلة الثانية من الثورة الزراعية، مرحلة إنشاء الدولة الكولونيالية، الإمبراطورية القديمة التي كانت تتوسع بدءاً من حدودها إلى أن تشمل معظم العالم. كان الحصان يستخدم مع الحمار في النقل، ولكنه متسرع وأحمق، فلم يشق طريقاً ولا أنذر بعاصفة قبل وقوعها، ولا شعر بتقلبات الجوّ مثل الحمار، كان تابعاً لا متبوعاً، ولكن الحثيين في شمال بلاد الشام اكتشفوا شيئين خطيرين: سرعة الحصان، وصناعة التعدين، أي صناعة الأسلحة الباردة من سيف ورمح وسكين وخنجر وبلطة... وكانوا أول شعب استغل الحصان في الحرب والسلب والنهب، قبل خمسة آلاف سنة من بداية التاريخ الميلادي. ومنذ ذلك الوقت بدأت تظهر السرقة والغش والخداع والقهر والتسلط والاستبداد والاستهانة بالشعب الذي كان عبارة عن عدد ليس لديه خيول محاربة تدافع عنه، وبرزت عواطف كانت مجهولة أو شبه مجهولة كالجشع والأنانية وحب الظهور والعداوة والاستعلاء على الآخرين، وتفوقت على غيرها من العواطف النبيلة.. فتشكلت الإمبراطوريات القديمة، وجرت الصدامات المريعة، ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الحروب ولا الشروخ التي أوجدها الحصان الحربي. إن الباب الذي فتحه الحصان لا يزال مفتوحاً حتى اليوم، ولا تزال حضارته مستمرة، فنحن نقدر اليوم طاقة كل آلة بالحصان، كالسيارة والطيارة والفرّامة الكهربائية وطاحونة البن وعصارة الفواكه... الأدب الذي نجم عن حضارة الحصان هو الأدب الفروسي، أدب الملاحم الشعرية والنثرية والمختلطة، أدب الملاحم الفصيحة والعامية، فقد صارت الفروسية قمة الأخلاق التي ترفع الظلم والقهر والاستعباد. والتراكم الأولي الذي يربطه الاقتصاديون باكتشاف أميركا، إنما تحقق في حضارة الحصان، ولكن في ذلك العهد لم تكن هناك طرق مواصلات، ولا أدوات إنتاج متطورة حتى تظهر نتائج التراكم الأولي. صار الأدب يمجد الشجاعة والبطولة والانتصار، وهو مفهوم لم يظهر إلا في حضارة الحصان، أما الأعداء... فلم يقتصروا على العالم الخفي، كما كانوا في التراث الأسطوري القديم، بل من عالم الواقع، وظهر المديح المفرط، بعد أن ظهر أصحاب السطوة والسلطة... الخ. لكن هذا الأدب تلاشى أو أوشك أن يتلاشى اليوم، فلم نعد نلمح هذه المدائح التي تبالغ في الفخر، كما تبالغ في شتم العدوّ إلا في بعض البلدان التي تعاني أزمة قومية.
***
فكما نرى ظل الأدب لم يتغيّر، لكن صوته لم يتبدل في الدفاع عن الحق والخير والجمال، عبر كل الأجيال، وسيبقى هكذا إلى الأبد... آمين.

البارود بطل العصر الحديدي (الإمبريالي)
دخل البارود أوروبا عن طريق العرب في القرن الرابع عشر، وانتشر استخدامه بعد أن اخترع الأوروبيون السلاح الناري، الذي قلب الموازين. فبات السيف والرمح والترس أشياء مضحكة أمام سلاح يطالك على بعد مئات الأمتار، ويطالك اليوم على بعد مئات الكيلومترات. وكما يقول القائد دون كيشوت، بات في مقدور نذل مشوّه عاجز أن يردي أشجع الفرسان برصاصة يطلقها من خلف صخرة أو شجرة أو حفرة أو دغل... إن عصر البارود افتتح عصر الصناعة التي أخذت تتراكم وتتخمر حتى القرن الثامن عشر فانفجرت ثورتها في إنجلترا وعمت أقطار أوروبا ثم أقطار العالم، وحلت الإمبراطوريات النارية (الإمبريالية) محل الإمبراطوريات الباردة (الكولونيالية).
ولا بد أن يظهر أدب جديد يحل محل الأدب الفروسي الذي نتج في ظل الكولونيالية، فظهر أدب الإمبراطوريات الذي طفق يطرح مسألة الإنسان في ظل الأوضاع الجديدة، وهل ينبغي أن تكون هناك إمبراطورية حتى تكون هناك عزة وكرامة؟
والملاحظ أنه حتى في هذا العصر كثر الحنين إلى الأيام الخوالي، أيام الهدوء وراحة البال، أيام حضارة الحمار التي كانت حضارة قنوعة جداً ومسالمة جداً. وفي هذه المرحلة نطلق اسم «الحداثة» على الأدب الذي أنتجته تلك المجتمعات.

الإلكترون يتصدر «الفضائي»
يطلقون عليه اسم «الموجة الثالثة» باعتبار الموجة الأولى هي الثورة الزراعية (الحمار مرحلتها الأولى والحصان مرحلتها الثانية)، والموجة الثانية هي الثورة الصناعية (مرحلة البارود وما تبعه). والموجة الثالثة هي الثورة المعلوماتية، وهي موجة غير مرئية، أدت إلى تطورات كانت تعتبر في الثورتين السابقتين من الغرائب والعجائب. بعضهم سماها ثورة الإنفوميديا (ثورة المعلومات) وبعضهم سماها ثورة الاتصالات، وبعضهم سماها ثورة الطاقة الجديدة... وما كان مستحيلاً من قبل بات ممكناً في هذه الثورة.
ونجم عن ذلك أدب سمي «ما بعد الحداثة» أو «أدب العولمة»، الذي لا يختلف في موقفه عن سابقه في إدانة المؤذي للفرد والمجتمع من قمع واستبداد، وإدانة المغامرة الذرية المهددة لوجود العالم بأسره. وفي هذا العصر اختلفت المقاييس جداً. من قبل كان من يمتلك العدد الأكبر من الخيل أو من الحديد (الدبابات والمدافع وبقية أدوات الحرب) يكون له النصر. اليوم من يمتلك أكبر عدد من القوى غير المرئية ويسيطر على الفضاء تكون له الغلبة، سواء في السلم أم في الحرب. إن الروبوت الذي كانوا يتحدثون عنه في القرون الغابرة (الغوليم في التراث اليهودي، وأثاث بيوت الآلهة في الأوليمب التي تتحرك بمجرد صدور الأوامر، والتي صنعها لهم الحداد فولكان، وتالوس في ملحمة «ملكة الجن» لإدموند سبنسر ورابوت كارل تشابيك... الخ) بات روبوتاً حقيقياً، ليس في الأرض، ولكن في السماء أيضاً، ومن يدري أنه في الغد يكون للدول المتقدمة جيوشاً ومعسكرات فضائية؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©