لولا الحقيقة، لما شرعت نوافذ الاستفهامات الشاسعة، منذ نشأة الوجود، ولما تهادت الإجابات في الفكر والعلم على ضفاف محيّرة، وفي اتجاهات متجددة ومتعددة، ولما اكتشفت الرؤى، ذات القيم الإنسانية، والثوابت الفكرية. ولولا الحقيقة لما نضجت الحياة، أشد النضج، والحقيقة لا تغادر ذاكرة الإنسان، فاتساع الحقيقة يلبسها رحابة الحكمة في الوجود، وهي مكمن العقلانية، التي تسرج ضوءها أمام الإنسان.
ولذا فإن الحقيقة تسير في ازدهار وتأمل، ونواتها التجلي الزمني، والتجذر المتزامن، ما بين البدء المتأصل، والانفتاح الشاسع. الحقيقة ما بين المعرفة واللامعرفة، ما بين الزمن والاستنتاجات البحثية في الحياة، التي تتسع في تأملها المستمر، بل يسعى إليها في كل نطاقات الحياة ومعانيها المتجسدة، والمتسعة، منذ فجر التاريخ، لتشرق كل يوم.
ولذا يقال إن الحقيقة هي الوضوح في المعرفة الصحيحة للواقع، فالحقيقة هي ذات سمات تتماهى وتتجلى في تهذيب النفس وسمو الروح، وتقصّيها يثبت اليقين لدى الباحث، تُرى في كل زمن، وتحفز البشر على البحث عن دلالتها وبريقها المؤكد الذي يجسد الحياة وواقعها؛ لأنها أساس المعرفة وأصل الفكر الذي شغل المفكرين والفلاسفة، وهي لدى أفلاطون قيمة مطلقة تماماً كالخير والجمال، ولكن فيها يكمن السر، فأحياناً قد تلتبس في أذهان البشر أو في الواقع.
فالحقيقة حيرت الفلاسفة، في تحديد سماتها، حتى نُظر إليها كعلم، وكنظرة كونية صالحة لكل الأزمنة والأمكنة، لتنظر البشرية من خلالها ولا تحيد عنها فهي جوهر الأشياء. 
وما قد تشهده الحياة من مخاضات فكرية ضمن الجدل حول الحقيقة، امتد عصوراً متعاقبة وبطرق مختلفة في البحث والتفكير والتنظير. وإن لم يتوافق الفلاسفة حول معنى الحقيقة وأساسها، وكأن هناك أمراً ما يتحدى البشرية ويرهقها في البحث والتساؤلات التي فطرت عليها الحياة.. وهكذا ظل السؤال يراوح مكانه: ما هي دلالات الحقيقة ومقاييسها الوجودية؟ لم يصل الفلاسفة طبعاً إلى جواب قاطع جامع مانع حول ذلك، مع تسليمهم بأن الحقيقة تبقى أحد المعطيات الوجودية في العقل الإنساني.