في مساء هادئ بدت مكتبة محمد بن راشد في إطلالة منفردة على ضفاف البحر، وخلف كواليس الهدوء في ذلك المساء بدأ الاحتفاء بيوم اللغة العربية العالمي، لا شك أنها مناسبة جميلة للغة التي أبهرت العالم، ولاتزال لغة معاصرة ذات منجزات حضارية، أشرقت بالثقافة والعلوم، ونهضت بالعالم، ولايزال الغرب يتحدث عن علماء العربية ممن أثروا حضارتهم، وجعلوا منها منارة علمية تضيء للعالم.
فمن حيث انتهى الهدوء، بدأ الفنان القدير لطفي بوشناق، يظهر بملامحه العربية التونسية، لإحياء الأمسية على خشبة مسرح مكتبة محمد بن راشد، يتقدم الخطى وسط لفيف من الجمهور الحاضر الشغوف، لسماع صوت عذب شجي، رقيق الوقع، تدرج بحضوره حتى استقر، لتستقبله بحفاوة الإعلامية حصة البلوشي ذات الثبات البهي، ولتقدمه بكلمات ترحيبية، بما يليق بقامة فنية لا مثيل لها، تظهر جمالية الفن الساحر، والمواويل التونسية الشهيرة، والمقامات العربية التي تناغمت مع الإرث الصوفي القديم المتجدد، والجديد المعتق بألحان الموسيقى العربية، فكان أداء لطفي بوشناق الباهر، صاحب الحنجرة الذهبية، والشخصية الراقية التي أضفت حضورها الفني المعتاد على الحضور المتعطش، لسماع صوته، بل كان يردد معه بانبهار أغانيه الشهيرة والأصيلة، والتي أعادت بالشعر العربي الفصيح لمعناه الجميل، وعادت لزمنه المغنى تجاذبه مع جمهوره.
مبادرة جميلة، من مكتبة محمد بن راشد، أنموذج مختلف لمكتبة حديثة متسعة الفكر، وفعالياتها ذات طابع جميل، فلم تكن مجرد أمسية غنائية، بل كانت حوارية في باطنها، وذات إيقاعات ما بين أهمية اللغة، واستشرافها على الحياة، وبدفعة غنائية تبث في الروح ما يلهمها من معنى غنائي، ثمة حوارات ثقافية حول أهمية اللغة العربية، فكانت متعددة الرؤى، اتبعها الفنان بسخاء لافت، فلم يبخل في الحث على تطوير الإيقاعات الكلاسيكية، ودمجها باللغة العربية الغنائية لتفضي بألحان جاذبة للتبادل الموسيقي المعرفي ما بين الشعوب العربية والعالمية.
في هذه الأمسية، تحدث الفنان بوشناق كثيراً عن أهمية اللغة العربية، وتطورها في الفكر الغنائي المعاصر، وأدى ارتجالاً منه بعض المواويل ليلهب الحضور بقدراته وتمكنه من لغته، وإصراره على اللون الموسيقي، وإيمانه بتعدد الصورة الموسيقية وتطورها بتلاحمها الفني ما بين شعوب المنطقة، وأدى نماذج منها وبانوراما ما بين هذا الفن الحاضر في ذاكرة الشعوب. منذ زمن لم تنعم الساحة الثقافية بهذه الأمسيات الرائعة، والتي تحاكي الفكر والفن معاً.