منذ البدء والإنسان ارتبط بالورقة، كان ينتزعها من غصن الشجرة ليسقطها على جسده ثوباً دافئاً، وظلت هكذا حتى انفتح الوعي على اللغة، وحتى صارت اللغة البديل للإيماءة وإشارة اليدين، وبعدما تطورت اللغة في عصور الثورات الذهنية، والتي انتقل فيها الإنسان من زمن الجمع والالتقاط إلى زراعة قمحة الحياة، وهكذا صار للورقة دور في حياكة طريق الوعي بأهمية أن تكون اللغة حامل الهوية، وخير وسيلة لحفظها هي الصفحات المبللة بالكلمات، الأمر الذي استدعى أن يهتم الإنسان بالشجرة ليست كمصدر للغذاء فحسب، بل أيضاً كوعاء لحمل مشاعره المرسومة على صفحات برائحة أمنا الشجرة، واستمرت المسيرة البشرية والضرورة الوجودية حتى يومنا هذا، ولما أراد العقل الجبار أن يفلت إلى الأمام وينهي علاقة الشجرة بحاسة الوعي وكذلك الشم، فأول ما فكر فيه هو التخلي عن الجذور والانتقال بالعلاقة إلى علاقة جامدة جافة وبلا رونق ولا رائحة ولا مشاعر ولا عروق تجري تحت الجلد، تمنح الإنسان الوعي بأهمية أن يكون متصلاً بجداول النهر الكبير، وهي تلك الجذوع السامقة الطالعة نحو السماء، والتي تذكر الإنسان دوماً بأهمية أن يكون متصلاً، لا منفصلاً عن الشجرة، ومهما بلغ من تطور، فهذا لا يعني الانسحاب من دائرة المغزى الأساسي في سر وجوده على كوكبنا الجميل.
المحاولات فشلت، وتحطمت إرادة المبالغين في ترك القارب يغرق بين موجات التهور العقلي، والتجارب أكدت أنه لا غنى عن الكتاب، مهما بلغت المغريات، ومهما كبرت فقاعة الخداع البصرية، فنحن يجب أن نجرب وأن نستمر في التطور لأنه ضرورة وجودية، ولكن هذا لا يعني أن نصد عن الجذور ولا نولي الأدبار بعيداً عن الحقائق الوجودية، لأن للورقة علاقة بالشجرة والشجرة متصلة بدمائنا التي ارتوت من رحيق ثمارها، فكيف لا نكون مخلصين؟ كيف لا نكون أوفياء لعلاقة بدأت بأحلام ونشأت على خبء في معطف الشجرة ملأت فيه جل ما نتمناه، ألا وهو أن يعبر الإنسان عن طموحاته، بتسجيلها على الورق وتضمينها بعض أنفاسه أثناء ما هو منكب على كتابة موضوع ما مرتبط بفن الكتابة ورائعة الفنون بمختلف صنوفها وأنواعها.
لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا جذور، كما هي الشجرة، وهو منها استعاض برسم الصورة وافية كافية لأن تكون الشاهد على حضارته المشير بالبنان إلى نجمة أحلامه التي بزغت منذ فجر ثوراته الذهنية، والتي بدأت منذ اثني عشر ألف عام.
هكذا يشعر المرء بالحسرة عندما يرى الناس منكفئين على شاشات أصبحت كأنها المواليد الجدد لكواكب غريبة عجيبة تسلط أضواءها الكاشفة على الأبصار لتنهيها وتسرق النظر والنضارة، ويبقى الفرد منا كأنه الإنسان الأول الذي أدهشته العربة، فأراد أن يطعمها عشب الحياة كي تأكل وتستمر في النمو.