لو سولت لك نفسك، وغبت عن المكان الذي يسكن في أقصى القلب، وذهبت فجأة إلى ذلك المكان، وفتشت عنه في ثنايا الروح، ستجد تلك النخلة التي ودعتها يوم كانت فتية، تنام على بساط الأرض الواهنة، وقد توسّدت التراب، وتلحّفت بالغبار، وكل الذين كانوا يحلبون ضرعها قد تواروا خلف الجدران العالية، وتركوا النخلة تلملم عراءها، وتشرب من الطين جفاف مراحلها، وتنشر سعفات أشبه بحبال مراكب تم سجيها على سواحل الهجران، والعراجين، ضروع عجفاء، والجذوع نواقيس تدق أجراس القيامة، ولم يبق غير الطير، يجوس في المكان، مذكراً خلق الله، بأن ما يحدث للنخلة شيء من البهتان، وما تكابده أمر يند له جبين الحمامة النائحة على طرف خفي.
هكذا هي «الغب، والحديبة، وشمل» هناك في أقاصي وجدان رأس الخيمة، تبدو هذه الأكباد تلعي، وتنعى، وتذرف دمع الخسارات الكبيرة، لعل وعسى يتذكر البيدار لون العناقيد الصفراء، يوم كانت النخلة في عز شبابها، ويوم كان البيدار يتدحرج على الجذوع السامقة، بحمل المودة، ويمد أصابعه ليقطف من ثراء المشاعر، ورخاء القيم.
لعله يتذكر كيف كان لرائحة الأشجار الوارفة، عطر المحبة، وانغماس الحلم الزاهي في طين الحياة فنخلة الغب، والحديبة، وشمل، وذلك الامتداد على رمش العيون، كان المهد لجدائل بلّلت الشعر بماء الأحواض الباردة، وغسلت الأهداب السوداء من بطون الينابيع الطالعة وهجاً، ومهجاً، ترتب مشاعر العاشقات، وتفلي شعورهن بأنامل من ود ورحمة، وتجعل العلاقة ما بين الإنسان والشجرة، كما هي العلاقة ما بين العذق والطير، كما هي العلاقة ما بين الحمامة البرية، والنسائم المهفهفة بين ضلوع الأغصان اللدنة.
تذهب اليوم إلى ذلك المكان، إلى الغب، أو الحديبة، أو شمل، وتحاول أن تقرأ التفاصيل بين سطور الأمكنة، التي استحالت بقدرة قادر إلى أوكار لوجوه لمعت في الليل، مثل عيون القطط الهاربة من الليل، تجد هناك أن البيدار قد غادر موطنه، وسكن في عراء الجدران السميكة، وتسمع صوت ما يخرج من تلافيف الوحشة، كأنه النحيب القادم من فيض الفراغ الرهيب، كأنه الحنث الذي أجّج في قلب النخلة، نيران المأزق المهيب، كأنه الخيط المعقود على عنق الحقيقة، وكأنه الحبل الممدود ما بين الشريان، والشريان، حتى بدت النخلة مثل جندي مهزوم في أقصى غابات دولة لاتينية.
تتحرى الدقة، وتفكر، ماذا بقي من النخلة في تلك المناطق المنعزلة في القلب؟ لا شيء سوى حلم باهت، يزورك حين تكون بالقرب من الجاثية على تراب مراحل ما بعد التذكر، وتبقى أنت في الحملقة، وبلا جدوى، لأن النخلة قد فارقت الحياة، ولأنك لم تزل تفكر فقط كيف تعيد الحياة إلى الميت.