متدلياً من سقف الحرية بحبلٍ لم يُقطع بعد، قلتُ أجرّب أن أهمس بالقصيدة الممنوعة في أذن الجدار لعله يُصغي، أو أن أخطّها بحبر لامرئي وألصقها على مرايا الحقيقة لعل رجلاً أعمى يتنبّهُ لصوتها وينادي باسم الضوء في العلن. والمسافة التي تفصل بين الحرية والقصيدة، قصيرة وصغيرة بحجم سكّين، أو بحجم مقصّ، لكن طعنتها تغور عميقاً في جرح الثقافة، وتظل ندوبها تكبر كالجبال على صدر كل من يرغب في التنفّس الحر وتذوّق نسمة الشعور بحرية الفكرة وباختفاء الخوف من النظر ومن القول ومن الحلم بجمال الحياة. والطامّة التي يواجهها خالق النص الأدبي، لا تكمن في الرقيب الكلاسيكي الذي يحرس المعاني، فذلك العصر ولى. إنما الطامة في العقول الغافلة التي لو يدكّها الشاعرُ دكاً بروح التجديد، ولو يهزّها المفكّرُ هزاً منادياً بإعمال العقل، نراها لا تتزحزح من عنادها أبداً.
ربما ينفتح العالم شرقاً وغرباً وتُهدم الحدود الوهمية بين الثقافات. ربما تُمنعُ (الرقابة) التي كانت تَمنعُ كل ما يمس محاذيرها الأخلاقية، إلا أن القصيدة الحرة لن تجد طريقها بسهولة إلى قلوب الناس، إذ على الشاعر أن يواجه وحده تناقضات العالم ومتغيراته. والقوى التي عليه أن يصارعها هي الأصوات التي تتمسك بالمعنى باعتباره ملكية خاصة. ولا تقبل بدورها أن يُرفع صوت التغيير إلا بحذر، ولا تسمح للعقل الجديد أن يجرحَ ما قال به العقل القديم، وهذه معركة ستظل مستمرة للأبد.
إلى من يلجأ الشاعر المجدد إذن وليس له إلا الامتثال لهيبة الشعر والسباحة في تهويماته المطلقة؟ وإذا جلس يوماً ونقش صوتاً لم يسمع الناس به من قبل، أو اجترح المعاني بعكس ما يطيق الناس سماعها؟ هل يختار الانزواء بصوته في كهوف العزلة ويظل يسمع نفسه فقط؟ أم يخرج للعلن وهو يُدرك أن الغوغاء سيقذفونه بالإشاعة، والجهلة سيرمونه بحجارة النبذ، وربما سدّ الخائفون آذانهم خشية أن يُشعل همسُه خدر أرواحهم.
من عقل إلى عقل، ومن روح إلى روح، ومن ورقة إلى ورقة، سيختار الشاعر أن ينثر قصيدته المغايرة في كل ركن وزاوية. ومن بذرة اللوثة الحرة، لابد أن تنبت زهرة الغد وهي أكثر نضارة ورغبة في تحدي العاصفة مهما اشتدّ سعيرها، ومهما قاوم تيارها، خطوة الذاهبين إلى المستقبل الجديد.