في زمن الطيبين ووطرهم الذي فات، كان يوم الجمعة منذ فجره حتى ليله يوماً مختلفاً، وله دفء، وفيه بركة وخير كثير، كانت عادة الجمعة أن يفطر الجيران القريبون مع بعضهم بعد صلاة الفجر بساعة، حسب توقيت رؤوس بعض «الشواب» الذين يحبون أن يأخذوا غفوة خفيفة عقب صلاة الفجر، بحيث إن صحا كبيرة توافدت مكان جلسته الصواني والصحون بعد أن تقوم النساء بالتنسيق فيما بينهن لصباح الجمعة الاستثنائي، ولكي لا تتشابه الصحون، هو ريوق في وقت مبكر، وبعد أن تطلع الشمس، تسمع الأب يقول لنساء الدار: «يالله انقفضن، حمت الشمس جان بتريّقنا، ترى بو جمعه فتنته عند خشمه، ويبا يسرح السوق، وأنتن بعدكن لاهيات، فاجات نطعكن»، في ذلك الإفطار البسيط والمتنوع، ودلات القهوة المختلفة التي تفرح النساء إن مدح الزوج إحداهن وأثنى على ما صنعت يداها، وكنت تستمتع بكلام الرجال، ومنازعاتهم البسيطة والتي في معظمها بلا معنى، وتوهمهم إن زادت «المغيه» وتحدثوا عن مغامراتهم التي لا تتعدى النخل أو شجرة الأشخر الوحيدة في آخر الدرب، وتسمعهم يطربون إذا قال أحدهم إن فلاناً قصّينا أثره عقب ذيك العراقيب، تبدو لهم أنك ملتهٍ بشيء ولا تسمع، وإن سمعت لا تفهم! لكنك تصرّ حكاياتهم في زوايا رأسك، ولا تغادرها.
بعدها ترتدي ثياباً تليق بالسوق وبالأب الذي سيلتقي بصحب وأصدقاء له إذا ما سمحت لهم أشغالهم في الشارقة وأبوظبي والظنة أو العديد، صحبة الأب لسوق العين القديم، تسبقها فرحة ركوب السيارة، كميزة تجربة الشارع من علو «الجيب بو حايب» بدلاً من المشي في سكيك نخيل العين إلى السوق أو تركض وراء «مَصّرِية الحوّاي» وهو يدلف يتبع ظل الجدران في مشواره الذي يطول، تظل فاتحاً نافذة السيارة مستمتعاً بالنسيم وفرحاً بخروج وجهك منها، وذلك الشعور بأنك ستمتلك سيارة مثلها حينما تكبر.
في السوق تحاول أن تظهر رجولة مبكرة، خاصة حين تسمع ربع أبيك يقولون: «والله كبر بكرة، متى بيعرس»؟ تظل تتبع فضولك في تلك العرصة، تتأمل الوجوه، وتراقب أصحاب المهن في عز انشغالهم، تسمع بعض المزاح، الملاسنات، كلمات الترحيب، والمكاسرة بالأثمان، كعادة أزلية في السوق، وتحب أن تتوقف عند البائعات المبرزات تحت شجرة السدر الكبيرة، وتراقب بضائعهن البسيطة، ولا تلتفت لمساعدة الأب في مقاضيه إلا إذا نهرك أو رمقك بالعين الحمراء، كانت أكياس قرطاسية قديمة رملية اللون، فيها «مَنّ سمك» قيس إيدام اليوم «خضرة»، و«جياسين لحم» و«درزن موز»، وإذا زادت المشتريات مثل كل أول شهر، إما يتبعنا حمّالي أو يركّضني أبي مرتين للسيارة لكي لا أثقل على يدي!
نعود ببعض الفرح الذي يسرّبه للنفس السوق وضجته، لقيا المعارف، ولا بد من فائدة تخزنها الذاكرة، خاصة إذا ما «وايهت» بعض النساء، و«تَحَفنّك» وسمعت ترحيبهن الذي لا تدري هو بك أم بأبيك!
تضع الأكياس، وتستعد للذهاب برفقة أبيك إلى الشريعة، كعادة تسبق صلاة الجمعة، وفرحة الاستحمام الجماعي، تلك ساعة تتمناها أن تطول، تفضل ماء الفلج حتى يبرر لحمك على السبوح في البيت بصابونة حمراء «لايف بوي» وشامبو إنجليزي أحمر في غرشة يشبه أدوية مستشفى كَنَدّ، يدخل في العيون ويحرقها، وحين تنتهي من السبوح تسمع أذان صلاة الجمعة من المسجد الطيني القابع في واحة نخيل العين، حيث يتقاطر الناس بملابسهم النظيفة ليسمعوا الخُطبَة المعتادة من دون إدراك وتمعن من «حياة» المطوع!
تمتد وقفات الرجال بعد الصلاة، وكل واحد لديه شيئٌ يقوله أو يوصي بشيء أو يتواعدون على فعل شيء، مثل المشاركة في خطبة بنت فلان أو يمشون على شخص زعلان أو يسعون لفعل في الخير للناس، بعدها يكون الغداء الجماعي، وبعد مدخن العود الذي ما بعده قعود، تسمع صهيل أحدهم والذي بالكاد يقدر أن يفتح عينيه: «ها.. انفرّ يا حاج»، وهي دعوة لأخذ قيلولة الجمعة.