رغم أن حركة التجديد في الشعر العربي قاربت أن تكمل عامها المئة، إلا أن التجريب والتجديد في هذا النوع الأدبي تحديداً، ظل حتى اليوم يواجه صعوبات جمّة تتعلق بمدى شرعيته ومدى إيمان المؤسسات الثقافية الرسمية به. ولو قسنا على سبيل المثال ما حدث في الفنون البصرية من تطور وتجريب طال كل شيء إلى درجة أن اللوحة نفسها أصبحت من كلاسيكيات هذا الفن، الذي دخلت عليه مفاهيم التجديد، وصار الفنانون فيه يبدعون أعمالهم باستخدام الأسلاك والطين وكل مواد الطبيعة، بينما في الشعر، وبالكاد ذهبت الأجيال الجديدة إلى كسر الوزن فقط، فإنها لا تزال تواجه (عدم حماسة) من المرجعيات المؤسسية في كل بلدان الوطن العربي.
مئة سنة من التجديد في الشعر، منها خمسون سنة تقريباً أنتج خلالها الشعراء العرب آلاف القصائد، التي خرجت من تحت وصاية النموذج الخليلي في الإيقاع. ووجدت طريقها للنشر والاحتفاء الخاص، ووجد بعضها اهتماماً نقدياً لافتاً. لكن ظلت بعض المؤسسات الرسمية رهينة النظرة التقليدية، رغم أن هذه المؤسسات نفسها قبلت بهدم اللوحة، وصارت ترحب بالمعارض الفنية البصرية بكل ما فيها من غرائبيات، فيما ظل الشعر الجديد خارج دائرة اهتمامها حتى اليوم.
ما يلفت الاهتمام أكثر، هو أن حركة نقد الشعر العربي، تبدو مغيّبة تماماً عن هذا الإشكال المجتمعي. فمن ناحية، ظهر نقّاد جديرون وإن كانوا قلة، وتناولوا قصيدة النثر العربية وجمالياتها وأبعادها الفلسفية والوجودية ومكامن التجديد والإبداع فيها. وعلى كثرة الدراسات النقدية التي رافقت التحديث في الشعر، إلا أن صوتها لم يكن مؤثراً في المؤسسة الرسمية إلى الدرجة التي تدفعها إلى تبني هذا الخطاب الجديد أو على الأقل تتوافق معه. وعلى الجانب الآخر من النقد، هناك المئات من الدراسات النقدية الأكاديمية ورسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات الغربية والعربية التي تناولت القصيدة الجديدة وقصيدة النثر، لكن معظمها بقي بين أروقة وأدراج الأكاديميات. ولا أحد يعرف، لماذا لا توجد مثلاً (دوريات ومجلات) متخصصة في النقد أو على الأقل مواقع إلكترونية تنشر هذه البحوث والرسائل الأدبية والنقدية.
أضافت قصيدة النثر الكثير إلى الشعر العربي، وهي اليوم تتصدر اهتمامات الأجيال الجديدة من الشعراء العرب، الذين يكتبون ويعبّرون بها بلغةٍ عصرية تُفصحُ عن هويتهم اليوم، بدلاً من التشبّه بقصائد كُتبت منذ ألف سنة، وإعادة تكرارها بالصيغ والعبارات والدلالات والإيقاعات نفسها.