طاجيكستان أوزبكستان كازاخستان قيرغيزستان تركمانستان وأذربيجان، بالإضافة إلى الشيشان وتتارستان وداغستان التابعة لروسيا، ظلت تلك الجمهوريات في آسيا الوسطى أو الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، حلم كثير من الرحالة والمكتشفين والمصورين وكتّاب أدب الرحلات، بسبب غنى هذه الجمهوريات بتاريخها العريق، وثقافاتها المتنوعة، وفنونها وتقاليدها الشعبية التي ما زالت محافظة عليها عبر التاريخ الطويل، وتقلبات أحوال العصور والدهور عليها، لكن ما كان يعيق السفر لتلك المناطق التعقيدات الأمنية أيام الاتحاد السوفييتي، وانغلاقها على ذاتها، ومنع التواصل مع الآخر، لأن الآخر كما علمتهم الأيدولوجيا الحمراء، هو عدو وجاسوس ومخرب، لذا كان من أهم شروط دخول حدود تلك الدول أن تكون لديك دعوة رسمية من الحكومة أو دعوة من الحزب إن كنت منتمياً، أما السياحة فكانت آخر همهم، لافتقار هذه البلدان للخدمات، وشروط السياحة الحديثة، ولطبيعة النظام الاقتصادي المنغلق، على الرغم من جمال طبيعة بلدانهم، وثرائها الثقافي والفني والحضاري، فقد كانت هذه الشعوب قديماً تشتهر بالتجارة وحركة البيع والشراء ونقل البضائع، وبعض مدنهم على طريق الحرير، وهم كثيراً ما عززوا الانفتاح على الجيران القريبين والبعيدين مثل تركيا وإيران وبعض الدول العربية، لأن منافذهم كانت الحدود مع الآخرين الذين لديهم أشياء كثيرة مشتركة معهم، منها اللغة والدين وكثير من العادات والتقاليد، وقد بقيت هذه الدول تدار بالعقلية القديمة حتى بعد استقلالها عن منظومة الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، والانفتاح الذي جاءهم متأخراً في العقد المنصرم مع حركة الاتصالات والمواصلات العالمية الجديدة، ومع ذلك ما زالت بعضها متمسكة بموروث قديمها السياسي والاقتصادي، والحس الأمني الرهيب والانفتاح الحذر.
تلك الدول سعيت لزيارتها بمجرد أن سنحت الفرص، وتحسنت الظروف، وقد أخذتها بالدور إما لقربها من بلد أقوم بزيارته، وإما لأنها مبرمجة ضمن زيارات سنوية، وقد أدهشتني معظمها لعراقة بعض مدنها وارتباطها تاريخياً بالحضارة الإسلامية، لذا ثنّيت الزيارة بزيارة.
لكن الزيارة لجمهورية قيرغيزستان لم تكن في الحسبان، ومرة كنت في مدينة المآتا العاصمة القديمة لكازاخستان، وحسبت الساعات منها لعاصمة قيرغيزستان «بيشكيك»، فوجدتها سويعات، واتبعت نظريتي القديمة في السفر، والتي وهنت مع التقدم في العمر، لكنها تشبع الغرور، وهي أنه ليس أجمل من أن تخربط برنامجك المعد بدقة إلى برنامج سفر جديد وطارئ ومغامر تجاه جهة مغايرة، وهكذا كان السفر لقيرغيزستان التي تشعرك ببساطتها، وبدائية الأشياء فيها منذ الوهلة الأولى، فكل شيء هنا، وكأنه منذ أمد، مدينة غير صاخبة لولا حركة السيارات والمواصلات العامة، وإيقاع الحياة في العموم يشوبه الهدوء، كانت زيارة شتوية حيث لا شيء غير الأبيض الذي تغوص فيه قدماك غير المدربتين على ليونة الثلج الأبيض المتراكم، ولا قساوة «الثلج الأسود» الذي يحتل الطرقات، ويشبه الزجاج المصقول، ويمكن أن يسحب أي جثة بذلك الانزلاق السريع، إذا لم تكن ترتدي حذاء خاصاً بالثلج، لذا كانت المشية في ذلك البياض لرجل يعشق الرمل والصحراء أشبه بمشية الإوزة المتثاقلة، وأول وصولي للعاصمة طلبت أن أتعشى في مطعم قيرغيزي تقليدي، بغية التعرف على كثير من الأمور التي من خلالها تتضح لك تلك الغشاوة المضروبة حول بعض الشعوب، بمجرد أن تدخل مطبخها، وإذا كان الرجل الكازاخي يقول: على الإنسان أن يربي حصانين، واحداً لكي يركبه في سفره، وآخر لكي يأكل من لحمه، ويشرب من لبنه، وخمره، فإن الرجل القيرغيزي، لا يحمل معه في سفره إلا الشعر وسجادة الصلاة.. وغداً نكمل.