كانت الحقيقةُ بكراً والعماءُ سيدها في المكان القفر. لكن حين مر الشعراءُ محمولين تحت أجنحة الريح، تناثرت كلماتهم في المنحدرات ونبتت حولها براعم الشك. ثم جاء الفلاسفة «عمياناً» وسيجوا الكلام الحر بحبالٍ طويلة واقترحوا ترويض المعاني ونصّبوا كبيرهم حكماً في صراع النقيضين! حدث ذلك عندما كانت اللغات مجرد صرخات أقوامٍ يصارعون الثور لأجل حراثة الأرض، ثم بالتدريج طاب للأمهات صوت العصفور وصفقن له، واستعذب الرجالُ تأوهاتهم فسموها «ترانيم العمل». ومن تلك الترانيم ولدت فكرةُ الكاهن الذي يسوق الجماعات بالفكرة المطلقة ويسيّرهم هنا أو هناك.
اليوم، كلما دخل المتناحران في الخصومة، أفتّشُ عن كاهن التحريض الذي يبث أنفاسه في العقول المريضة ويدفع أصحابها إلى طعن المرايا. هذا الكاهن الذي يريد للأرض أن تعود قفراً كما كانت، وأن تُهدم صروح النور وأن يُسجن طائر الحب ويُكشط اسمه من قواميس الزمن. وإلا، ما الذي يدفع الإخوة من بطنٍ وظهر لعبادة العناد؟ كيف لشخصٍ سوي يعيش متنعماً تحت ظلال بيته، أن يبتكر عدواً له من ذاته نفسها ويبدآ برقصة الموت وسط النار والرماد؟ أي هشاشة سمحت لفكرة الموت أن تصير هي نفسها فكرة الحياة؟ ولو قيل لشاعر أخرس: كيف تصف لنا نقيض المحبة وعدوّها، ماذا سيرسم لنا على الرمل؟ لا أحد يدري، ولا أحد ينتبه إلى الساعة المتوقفة عقاربها منذ زمن على جدار الذكريات الميتة. حتى الفلاسفة، وهم أعداء الوهم، يقعون أسرى للوهم إذا ارتفع الدخان وغطى مشهد الوجود المرتبك. فأي حيرة هذه التي يقع فيها الغافلون الراكضون على ممشى الندم.
غداً، ينقشعُ ضباب الجهل وتُشرقُ حقيقةٌ أخرى وترتفعُ شمسها في خيال المؤمنين بالأمل. وقد نرى طفلهم يقود سرباً من العصافير خارج الأقفاص الذهبية وخارج القواميس العمياء. وفي المدارس والشاشات تُتلى ترانيم العناق وتُمجّدُ صورة الضوء باعتباره غاية المسعى والوصول. ومن حوار رجلٍ وامرأة جالسين على أريكة المستقبل، ستولدُ كلمة الحرية على شكل طفلةٍ وستبدأ بالقفز على أغلفة الكتب المخنوقة بفراغها. وسوف يراها الشعراء على شكل قصيدة طالما تمنتها أفواههم المكممة. وأقصد بالحرية هنا، ذلك النفس النقي الذي إذا امتلأت به رئة العالم، يصير الوجود فضّياً كله، وتصبح الدنيا قيامة نورٍ دائمة.
لا تنبت براعم الحرية في الأرض القفر، ولا في النفوس القفر، ولا يحلّق عصفورها إلا في رحابة القلوب التي تتسع لفيض النور كله.