عندما غادر المسافرون في سبعينيات القرن المنصرم سواحل الإمارات إلى قاهرة المُعز للدراسة كانوا يعودون ومعهم ميداليات للمفاتيح تحمل أسماء الأشخاص أو عبارات الحب والشوق مثل «الحب كله» و«أمل حياتي»، وأشرطة نقلت إلينا المفردات المصرية لاسيما مواويل الفلاحين وسكان الأرياف وحكايات الحب والرغبة الملحة للزواج، منها ما حفظته أكثر من المقرر علينا في كتب المدرسة مثل أغنية ليلى نظمي الخالدة في ذهني «بستة ريال يابا جوزني»، التي تقول كلماتها المغناة «بستة ريال يابا جوزني.. القرش مركون والحلة على الكانون وبستة ريال يابا جوزني.. والنبي ياما تقولي لبويا حلوة اللمة بأصحاب أبوية.. بستة ريال يابا جوزني»، ولا تقف الأغنية عند هذا الإلحاح بل تبرر الغاية وتضع خطة تنفيذية لتحقيق المستهدف، فتغني ليلى نظمي «قطقوطة كبرت والله كبرت والنبي كبرت يابا جوزني... خذ مني ريال وخالي ريال وعمي ريال وأمي ريال وستي ريال وجارتي ريال.. بقوا ستة ريال يابا جوزني.. وبستة ريال بقى جوزني»، أما الأغنية الأخرى «تعالي يا بطة» ولا أعرف من كانت مغنيتها فقد كانت تمثل نداءً مباشراً من العريس لا يتطلب ستة ريال بل مجرد طلب بالحضور لا أكثر «تعالي لي يا بطة.. وأنا مالي هه.. تعالي لي ع المحطة.. وأنا مالي هه.. وشيلي لي الشنطة.. وأنا مالي هه.. تعالي لأبوكِ.. وأنا مالي هه.. تعالي لأخوك.. وأنا مالي هه.. تعالي لأمك.. وأنا مالي هه.. تعالي لاختك.. وأنا مالي هه.. تعالي لعريسك.. أنا جاية أهه!»، ألا تجلب هذه الأغاني السعادة؟ نعم، وكذلك تصور لواقعٍ وطبيعة حال وإبداع. عندما وصلتنا هذه الأغاني جرفتنا كما يفعل السيل المنحدر فصرنا نرددها ونغنيها حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من كيان ذاكرتنا.
للعارفين أقول: الفرق شاسع بين أغاني الأمس وما ينتهي إلى مسامعنا اليوم عن المسيطرة والمسطرة والغلبان والغولة وكذلك الشقيان الذي يكون أحد الجدعان.. هكذا انتقلت حوارات الأغنية الشعبية المستوردة التي كانت مسلية وذات خفة ظل وسرعة حفظ وأعيد تشكيلها حتى أصبحت معقدة التركيب مشحونة بأمور الدنيا، التي تجلب الكآبة والسلبية وتعزز الحزن وترسخ مفهوم دوائر القلق والمستحيل والحقد المستدام، أحياناً. جيلنا ما زال يتمتع بمخزون الذاكرة من أغاني الماضي كأغنية عايدة الشاعر التي تقول فيها «حلفت ما أنام.. إلا إن فرش لي أرضي رخام.. وبنى لي فوقها برج حمام.. وأغني للي هواه شاغلني»، ثم أقسمت مرة ثانية واشترطت على الأسمر أن «يجيب راديو ترانزيستور.. على حسه للصبحيه ح نسهر.. وأغني للي هواه شاغلني». وهكذا كنا نقزر وقتنا لاسيما عندما كنا نقصر الدرب ونجتر من ذاكرتنا التراكمية هذا المخزون البديع، ولدينا أكثر من ستة ريال وأحواض أولمبية للسباحة وقلوبنا مثل نوايانا تشرق مع شمس الصباح وتغني للمحبين أغداً ألقاك!