كانت لأختي سمية صديقة تُدعى صفية، ولنا مع أسرة صفية قصة قديمة حملتها السنون على أكتاف الذكريات، فوالد صفية كان مؤذناً وقوراً كلما مشى في الفريج ذاهباً أو عائداً من المجلس، كنا نتنافر من أمامه إجلالاً لتلك اللحية والسكينة التي اتسم بها. أخت صفية كانت صديقة والدتي، لازمتها حتى فراش الموت، أخ صفية كان سائق الباص الذي يأتي إلى منزلنا كل صباح فيجلس مع والدي أمام الراديو، ويستمعان للأخبار فيتناول خبزة الخمير ذات الدهنة الخنينة والدبس أو العسل، ثم يتجه إلى الباص بصمت ونحن نلهث وراءه فيدخله أولاً ويغلق الباب، ثم ينظر إلى ساعة في يده قبل أن يسحب الحديدة التي تبطل باب الباص. أخ صفية الصغير كان شاباً وسيماً يلعب في نادي النصر، ونحن لا نفهم من اللعبة شيئاً، ولكن جميع الأطفال كانوا معجبين بجديته عندما يركض وتركيزه الذي يحرز الأهداف. مرت السنون وانتقلنا من الشندغة إلى زعبيل، ومنها إلى ند الشبا، وهؤلاء المحبين يتوارثون تلك المودة التي تستديمها الذكريات والمواقف ورحلات الحج والعمرة فيتكرر المشهد مرة أخرى، ولكن في صورٍ مختلفة في غياب الرعيل الأول وبزوغ نجم الأبناء والأحفاد.
في خلوة مع النفس سرت أفكر كيف تجذب الأسماء أصحابها ليكونوا أصدقاء لا تتقيد صداقتهم بالمصالح أو الغلو. فتحت لسان العرب بحثاً عن «صفية»، وهو اسم مصدره صَفّا لكون «صَفَاءُ الذِّهْنِ: وُضُوحُهُ، جَلاَؤُهُ، صَفَاءُ القَلْبِ: سَلاَمَتُهُ، خُلُوُّهُ مِنْ كُلِّ الشَّوَائِبِ، صَفَاءُ لَوْنٍ: بَيَاضُهُ، وُضُوحُهُ، صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ: خُلُوصُهَا وَصِدْقُهَا، ساعات الصَّفاء: أوقات السَّعادة، صفاء السَّريرة: نقاؤها، فلانٌ سريعُ الصَّفاء: لا يحمل الحقد لأحد، فإن قيل صافى الرَّجلَ: بادله الإخاءَ والمودَّةَ، أخلص له الودّ.. ولم استغرب أن الأولين كانوا يسمون الحرير صَّفْوُه لأن «الصَّفْوُ من الشيء: خِيارُهُ وخالِصُه»، فإن قيل «عكَّر صَفْوَ حياته: نغَّصه، أزعجه، سبّب له المتاعبَ وذلك على عكس عَامَلَهُ بِصَفْوٍ : بِإِخَلاَصٍ وَصَفَاءٍ وَمَوَدَّةٍ، وعَاشَ فِي صَفْوٍ مِنَ العَيْشِ : فِي رَغَدٍ، فِي رَاحَةٍ لاَ يُكَدِّرُهَا شَيْءٌ، حَادِثَةٌ عَكَّرَتْ صَفْوَ حَيَاتِهِ: هناءة وَرَاحَتَهُ. اصطفاهُ صَفْوَةُ القِدْرِ: زُبْدَتُهُ، خُلاَصَتُه، والصَّفْوَانُ : الصخرُ الأَملسُ. من الصفاء اشتق اسم مصطفى فصَفْوة كلّ شيء: ما صفا منه وخلُص، أحسنه وخياره وصَفْوَةِ الْمُجْتَمَعِ: مِنْ نُخْبَتِهِ، مِنْ خِيَارِ النَّاسِ واستصفى الشَّخصَ: اختاره وفَضَّله، عدَّه صفيّاً وصديقاً، مختار المنتقى والمُصْطفى: لقب للرَّسول محمد ﷺ خُلِق منزه من كل عيبٍ وكان المصطفى ﷺصادقاً أميناً».
للعارفين أقول، هكذا كانت الحياة وهذه هي اللغة العربية التي تعبر بها معجزات القرآن الكريم من حافظ عليها فقد حفظ دينه وهويته الوطنية وافتخر بالحضارة العربية. أحبوا اللغة العربية بصفاء وستضمن لكم البقاء.