بعضهم في الحياة مثل النجمة، يتوارون خلف غيمة المطر في سكينة واطمئنان، ولما تنتهي الغيمة من نفض شالها الرمادي من الماء العذب،  يطلون على العالم وقد طوقوا أعماق محبيهم  بعبرات تخنقها لوعة الفراق.
ولأن الإنسان حبل مشدود بين ورقتين .. ورقة الميلاد وورقة الموت وما بينهما سؤال الوجود التاريخي (من أنا)، يذهب الأموات إلى مثواهم الأخير ساكنين مطمئنين،  بينما يبقى الأحياء هم الذين يديرون حركة الأسئلة،  فتشتعل الذاكرة بصور ومشاهد ترسم ما علق في جدرانها من أجمل آيات العلاقات الإنسانية وأحلى مباهجها، ولكن لبعضهم  تكون للصور أكثر أثراً في النفس لأن هؤلاء خلقوا من عزلتهم عالماً آخر يتسم بالجمال الإنساني وروعة الهالة وبراعة الحضور في خيال الأقربين والأبعدين حتى ولو لمجرد علاقة عابرة، فهي علاقة الود الداخلي، علاقة الابتسامة الشفافة والكلمة المعبرة عن انسيابية مشاعر ربما تكون نادرة وليست متوفرة لدى كل الناس.
بعضهم في عزلتهم تنسك  وتحرر من انشغالات الواقع واستتباع نفوسهم عند حالة من الطمأنينة الرائعة، لأن هؤلاء تخلصوا من الأفكار المسبقة وانتصروا على الذات، وعاشوا حياة روحانية متفردة، هؤلاء نادرون في زمن العبثية، هؤلاء توحدوا بالوجود  ولم تعد المفردات الحياتية تعنيهم، الأمر الذي جعلهم يعيشون مستمتعين بجمال الحياة وروعتها ورونقها،  هؤلاء امتلكوا زمام الوعي، وتعرفوا على نفوسهم قبل غيرهم، ولذلك لم يشعروا قط بالأرق الذي يشغل الآخرين، ولم يعتريهم الخوف من الغد، ولم ينتابهم الفزع من ملمات الدهر، لأنهم مثل المحيطات لا يزعجهم صوت الموجة العارمة، ولا تقلقهم خربشة العابرات في الماء.
هؤلاء أمسكوا بزمام الوجود بقلوب عشقت الحياة وتوحدت بالعالم، ولم تعد الجزيئات في أمور الحياة تشغل حيزاً في نفوسهم.
هؤلاء هم الذين عندما يغادرون حياتنا يتركون في صدورنا فراغاً لا تملأه الوديان ولا الأنهار، هؤلاء عندما يترجلون تصبح صورهم أمام أعيننا كأنها النجوم التي توارت تحت الجفون، وربما تكون ابتسامة أو كلمة أو تلويحة يد تظل عالقة في الذهن كالأيقونة التاريخية لأن أي ما يصدر عن هذه الشخصيات إنما هي رسالة سماوية ارتسمت على شفاه  أو وجنات وتبدو صافية  كأنها قطرات الندى، تبدو عفوية كأنها النسمة.
عندما نتذكر هؤلاء، مثل هذه الخفقات الروحية،  تتفتح أمامنا باقات زهور معطرة بالحب وليست الحياة إلا محبة، ليست الحياة إلا علاقة عشق ما بين الإنسان وهذا الوجود الناضح بوجدان أوسع من المحيطات.
عندما يترجل ناسك متعبد في محاريب العزلة الشفيفة، عندما يشد الرحال رجل تأزر بالصمت الجميل واتشح قلبه بمشاعر  أجمل من بتلات الورد،  عندما يغادر هكذا إنسان  تميد الأرض من تحت أقدام الذين عرفوا هذا الإنسان، وتكفهر السماء، والنجمة ترتجف لوعة  وفقداناً.
عندما يحدث هذا الخسوف وهذا الكسوف،  تتوارى مشاعرنا خلف هزيمة منكرة، نشعر بأننا خسرنا حربنا مع الحياة،  نحس بأننا فقدنا راحة كانت تمتد خفية نحو قلوبنا  لعلها تزيح عنا بعض انكسارات وبعض أخلاق على مدى الزمن.
هكذا نتخيل وهكذا يداهمنا شعور يجعلنا نأسف على اختيارنا الغربة الزائفة،  ولا نعلم برحيل من نحب إلا بعد فوات الأوان.
ترجل صالح المحمودي (أبو أحمد)، وترك عطره  يعبق الذاكرة، ويملأ أزقة معيريض بخور تنسكه  وعزلته العفوية ووحدانيته الجميلة وبلاغة شخصيته  ونبوغ وعيه بأهمية أن يكون الإنسان مخلصاً صادقاً لرفقة المكان والزمان والإنسان.
رحمك الله يا أبا أحمد وأسكنك فسيح جناته،  والصبر والسلوان لمن ذرفوا الدموع مدراراً حسرة على فراقك.