سؤال يتدفق تعجباً واستفهاماً عن أسباب هذه الاستدامة لحروب غوغائية همجية دامية إلى حد العدمية.
سؤال يحمل في طياته أمل الطفولة المعذبة بأن تنتهي الحروب، وتتلاشى الضغينة، ويختفي الظلم من هذا العالم الذي يهيم في غابة التضور، ويعتنق سيرة الإنسان البدائي الذي عبد كل شيء في الطبيعة، إلا خالق الأشياء، لأنه كان يجهل ما بعد الطبيعة حتى حسب أن أجمل الكائنات هو هذا القمر المبثوث في الوجود كتلة صخرية تتدحرج حول الشمس كأحد كواكبها.
عندما أنظر إلى عيني طفل، وقد ملأها الدمع ممتزجاً بغبار ركام الأبنية المهدمة، أشعر بأن الفكر البشري لم يزل يغط تحت ركام ونفايات، وأنه لم يزل يخطئ الطريق إلى الحقيقة والحقيقة هي أننا أبناء هذه الأرض ولكي تستمر الحياة على أديمها، فيجب علينا أن نتصالح مع أنفسنا ثم مع غيرنا لنصبح في الوجود كائناً واحداً يبحث عن السعادة من خلال كبح أسباب التعاسة، ومن أهم الأسباب التي تميت السعادة، وتدفن رفاتها في قبور جماعية هي هذه الأفكار، وهذه الحجارة المسننة والتي تتحول بعد حين وبعد تشبث إلى سكاكين تغرس أنصالها في صدورنا، وتجعلنا لا نستطيع التنفس إلا من خلال نعت الآخرين بالرذيلة، ووصفهم بأنهم كائنات متوحشة ولا ملائكة إلا نحن.
هذه معضلة الإنسان (الحضاري) في زمن العقل الجبار زمن التكنولوجيا المتطورة زمن الخداع البصرية، والتي أجهضت دور العقل في إدارة بيت الحقيقة، وجعلته مجرد آلة معطوبة.
حروب اليوم لا تختلف عن الحروب ما قبل الحضارة، بل أكثر جهالة وأعظم فظاعة وأشرس وأكثر غطرسة وفداحة؛ لأنها حروب تسلحت بإبداعات عقل عرف كل شيء في هذه الحياة إلا نفسه؛ مما جعله يغرق في مجون القتل والتدمير، وجعله يفكر بمنطق القوة لا بمنطق المحبة، وفي القوة ظهرت عوارض التدمير مدعومة من نفس أمارة مشتاقة إلى محو الآخر بحجة واهية بأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان والآخر على بقعة واحدة فالمصالح تتعارض وكلمة مصالح هي بيت القصيد، فعندما ترتفع نبرة المصلحة تتلاشى الروح الإنسانية وتطفو رائحة الدم، وتتزحلق الروح باتجاه حضيض الجرائم النكراء بحق الإنسانية.
العالم يطفح اليوم بدماء تسفك من دون وعي وأرواح تزهق من دون ذمة ولا ضمير وجوع ومرض يحيطان بالكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، ولم يزل الإنسان يتحدث عن حقوق الإنسان وعن القيم والمبادئ السامية ولكن.. ولكن كل ذلك مجرد حبر على ورق، مجرد عواء في خواء العالم يصرخ العالم كله، ولكن مجزرة العقل المحرض للقتل مستمرة، والكراهية تنمو مثل الأعشاب الشوكية، والتصريحات نارية ولا شيء يمكنه إطفاء هذه الحرائق طالما بقي العقل يعيش في كهف الجاهلية الأولى، وطالما ظلت غيمة حمضية تهلك الزرع والضرع، وطالما نسي الإنسان سبب وجوده على الأرض ونسي الدور المنوط به ككائن وحيد عاقل تقع عليه مسؤولية الحفاظ على الحياة، وعلى المنجز الحضاري الذي صنعه هو والآن يكسر أسنانه.