لو صحا أجدادنا، وخرجوا من القبور، ونفضوا الغبار عن أجسادهم، وجاؤوا من تلك الأراضي الموحشة، ودخلوا بيوتهم القديمة، وتأملوا الجدران والسقوف التي احتلتها الحشرات والدواب، ثم انتقلوا إلى بيوت الحداثة السامقة كالأشجار العملاقة، الواقفة كالنسور، ثم تملكوا الشجاعة ودخلوا البيوت، وولجوا الغرف السيراميكية الملساء، مثل لجة بلقيس يوم كشفت عن ساقيها ظناً منها أن الذي تحت قدميها هو البحر، وليس الأرض الباذخة، لا شك أن هؤلاء سيصيبهم ما أصاب تلك المرأة، ولا شك أن الدهشة ستصيب الأبناء كما أصابت سليمان النبي عليه السلام. كل هذا يهون، وإنما الأدهى والأمرّ، هو الغي الذي يصيب الأبناء صغاراً وكباراً وهم يخبئون رؤوسهم في شاشات الساحر اللئيم (الكومبيوتر)، هذا الوحش، هذا المتمرد على كل ما ألفه الأجداد. 
وعندما يتأمل هؤلاء الحالة النفسية التي تصيب الأبناء جراء الإدمان لمدد تتجاوز الساعات الطوال وهم يغرقون في محيطات هذا الساحر، ويستغرقون الزمن في البحث عن اللاشيء، ويستهلكون الطاقات في لعبة جهنمية، تنهك الجسد والروح والعقل، عندما يقف هؤلاء الأجداد أمام هذا المشهد الرهيب، ويحاولون التحدث مع مدمني الكمبيوتر، ولا يجدون آذاناً صاغية، ولا عقولاً واعية، سيشعرون بالضيم، وتعتريهم رغبة في العودة إلى أماكنهم الهادئة، والسكينة التي كانت تطوي أجسادهم، ويتذكرون أيام زمان، يوم كان الصغير يثِب كالأرنب ويقف أمام الأكبر منه ملبياً واجب الاحترام، مستجيباً لبعض القيم الإنسانية الجميلة التي لم يعد لها مكان اليوم!
كثيرون سيقولون إن نثر كلمات المديح على الماضي مسألة فيها نظر، كما أن ذم عصر الكومبيوتر مسألة تحتاج أيضاً إلى تريث وتفكير عميق؟ أقول نعم، هذا صحيح، ولا أحد يشك في قيمة هذا الجهاز المهم، الذي يقدم خدمات جليلة للباحثين، والعاملين في المؤسسات، والدوائر الحكومية والخاصة، وكذلك يساعد طلبة العلم على إيجاد المعلومة، بيُسر واستفاضة، ولكن الذي نتحدث عنه لا يكمن في هذا الجهاز، وإنما العيب قد يكون في من يستخدم الجهاز، حين يفرط في الوقت والعلم والعمل، ويتفرغ فقط لإدارة ذلك (الفأر) الصغير، الذي يلعب برأسه، ويقذفه بعيداً عن مرمى الحاجة الملحة في استخدام الكومبيوتر استخداماً علمياً واعياً، مستوعباً مدى أهمية هذا الجهاز، إذا ما استخدمناه بالشكل الذي يجعلنا نحن من نستخدمه، ولا نترك له المجال ليستخدمنا. هنا الفارق، وهنا تقع المعضلة، عندما نصبح نحن جزءاً من هذه الآلة الفظيعة، ونسخّر أنفسنا لخدمتها، في ضياع مشاعرنا، وتيهنا، وفقدان أهم ما نملك، وهو علاقاتنا بالآخر، حيث إن هذا الجهاز قد يحصرنا في غرفة مغلقة، ويحاصرنا بين أربعة جدران، ويعزلنا عن العالم، ولا نجد من صديق غير هذا الجهاز الأصم.