يوم الخميس ثاني أيام عيد الفطر، قلت لأبنائي: هيا لنزور خالتي ونهنئها بعيد الفطر المبارك، فقد مرت أيام عديدة لم أزرها فيها ولم تزرني كما تعودتْ وتعودتُ في كل مناسبة وعيد. ورحب أبنائي بدعوتي إياهم لزيارة خالتي التي يحبونها ويشتاقون إليها منذ زمن طويل. ذهبت أنا وأولادي وعائلتهم لزيارة حبيبتنا وتهنئتها بالعيد. وحين دخلنا بيتها الذي جعله أبناؤها بيتاً يشبه القصر مجملاً بحديقة رائعة، وعلى طاولة المجلس اصطفت أوعية الأطعمة التي تعبر عن الاحتفاء بالضيوف في كل مناسبة جميلة، وحين دخلت المجلس رأيت خالتي الغالية جالسة على إحدى الكنبات، فجلست بجانبها بعد أن احتضنتها وقبلت جبينها وكفيها. وحين حدقت في وجهها أوشكت دموعي على الانهمار لأنها لم تعد كما كانت قبل مرضها الذي تسبب فيه سقوطها حتى باتت ترتجف حين تمد كفها لتصافحنا. في تلك اللحظة المريرة استيقظت ذاكرتي عبر السنين التي نشأنا فيها معاً ونسجنا فيها أحلامنا الفتية معاً وحرسناها بالأمل والطموح الذي تهشم على تروس الواقع. 
خالتي كانت ذات نزوع مرهف وعقل منفتح على الجديد، وروح متوثبة طلقة. كرهت القيود التي فرضتها العائلة والتقاليد، لكنها عجزت في ظل الصرامة العائلية أن تشق لها درباً حلمت به دوماً لأن مفتاحه التعليم، لكنهم لم يتركوا لها فرصة مواصلته، فعلمت نفسها أن الحياة تجدد دائم، وأن الأقفال مهما قست تظل الروح عصية على القيود. وظلت ترتجل الشعر طوال السنين باللهجة المحكية، فتنساب قصيدتها كالماء بين شفتيها، كأنها دفق الروح وتردد النبض ورهافة الانتباه إلى ما يحيط بها. واتسمت أغلب قصائدها بروح التهكم حيناً، والهجاء والاحتفائية بالحياة والفرح والجمال أحياناً. كانت تذهلني دوماً بقدرتها على التدفق الشعري بارتجال لا تحتاج معه إلى ورق أو بحث عن المفردة أو الصورة. موهبة فطرية تميز بها الشعراء منذ القدم وقبل نشوء الكتابة ومعاجم اللغة. الشعر عندها حديث عفوي يمزج العقل بالروح والسر بالوضوح والفن بالفطرة، تلك الفطرة التي لا تبحث عن مجد، ولا تسعى به لكسب الشهرة أو للتباهي. لم تنشر قصائدها على صفحات الصحف التي تمتلئ بقصائد النبط أو المحكي. لا أحد يعرفها سوى أبنائها وسواي. ويعجب من يراها أن تكون أماً لثمانية، فالزمن يمر خجلاً ساحباً ظلاً رهيفاً على ملامحها، كي تظل شاعرة، تسبك قصائدها من منابع الحياة وحكمة العمر. وحين احتضنتها لتوديعها احتضنتني والدموع تتدفق من عيوننا معاً.