تمر الذكرى المئوية لتأسيس «لبنان الكبير» خجولة وكأن لا أهل لها ولا ناس ولا إخوة ولا رحم. تلمع هذه الذكرى خافتة، في ظل استمرار البلد قلقاً متوجساً بين أسئلة مصيرية كبرى: أيبقى لبنان وطناً نهائياً لأبنائه، بحدوده ودستوره ودوره ونظامه وحضارته، أم يبقى كما كان على امتداد الخمسين سنة الأخيرة (من 1975)، جزءاً متوارَثاً من مشاريع أكبر منه، تحاول إذابته أو الهيمنة عليه.
الكل يقول «لبنان في خطر»، لكن متى لم يكن لبنان في خطر منذ نشوئه؟ يبدو أن اللعبة اليوم أشد «إيلاماً» وأعمق جروحاً وأحدّ قراراً: فالميليشيات المذهبية التي صنعها الخارج في الحرب الأخيرة (1975–1990) كانت مشاريعها خجولة، وضمن الإبقاء على حدود البلد، وشيء من البُنية، لكن وبما أن «التمليُش» بات وراثة مُتَنَاوبة بين الطوائف وزعمائها، فمن الطبيعي أن تنفرد ميليشيا بعصبية طائفية متطرفة حاملة مشروعاً أكبر وأوسع من سابقاتها بتذويب البلد كله وضمه كله وإلحاقه كله بدولة «الحزب» الأم، ضمن ما يسمى «الهلال الشيعي»، وأكثر: محاولة تغيير وجهه الاجتماعي، وطقوسه، وتقاليده، وموروثاته التاريخية ونظامه، لتزول الفوارق بين نظامه الديمقراطي، العربي السيادي التنوعي، ونظام الملالي.
وبعد مئة عام،وبدلاً من أن يستقر هذا البلد الصغير وتتطور مفاهيمه، ويزداد اقتصاده ازدهاراً، ها هو شعبه جائع، بلا حول ولا قوة، تتسلط عليه أسلحة الحزب، وميليشياته وسراياه.. وتتحكم به عن بُعد «قوة إقليمية» تحتل أجزاء من سوريا والعراق واليمن.. كأنما لبنان صورة مظهرة لما آلت إليه بعض الدول العربية. وكما استحلبت هذه القوة خيرات العراق وسوريا واليمن، ها هي تنهب وتستبيح خيرات وموارد لبنان. لبنان اليوم شلو بين براثن «حزب الله» وحلفائه، عارٍ، وحيد، لا ظهير له، ولا معين، «مفصول» عن أرومته العربية، وعن العالم الحر، مسروق، منتهك، يائس، غريب عن أحواله، ومآلاته وتاريخه، وماضيه، وحاضره، ومستقبله.
لكن أيعني ذلك النهاية المبرمة والقدر المحتوم؟
كلا! فلبنان الذي آخَاه الخطر الوجودي على امتداد تاريخه القديم والحديث، وتجاوزه لم يفتهُ رغم كل ما أوردناه، من أسباب الصمود والمقاومة: وكما تقهقر أو انسحب منه كل الذين استعمروه أو غزوه في الماضي، من فرنسيين وإنجليز وعثمانيين وإسرائيليين وسوريين (نظام الأسد)، وكما تقهقرت كل الميليشيات المرتهنة للخارج (1975–1990)، فإن الميليشيات المذهبية ستلقى مصير «شقيقاتها» السابقة بأحزابها وأسلحتها وكانتوناتها وأربابها الخارجين.
ونظن أنه رغم ما يعتري الواقع من سوء، فإن معظم اللبنانيين الذين يعانون الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة يتجاوزون كل هؤلاء، بهمهم ومساعدة إخوانهم العرب، وقد بدأت طلائع هذه الانتفاضات (الشبيهة بما يحققه الشعب العراقي العظيم) في الشوارع من تظاهرات واعتصامات تصرخ «لا لسلاح هذا الحزب» ولا للمنظومة السياسية والأمنية والقضائية المرتهنة له. إنها أصوات الناس، تتفجر من قلوبهم وعقولهم، قبل أن تصدح من حناجرهم! 
لبنان في خطر، نعم، ولكن، نظن، ومن خلال الوقائع، أن نهاية هذا الحزب هي التي أزفت، لا نهاية الوطن. فهو «حزب» يعيش أزمات ضعفه (بدأت تظهر في بيئته المقموعة بسلاحه) وعزلته، فهل يرد على مآزقه بافتعال «فتنة مذهبية» للخروج منها، أم يلجأ إلى «الاغتيالات» أو إلى تدمير ما تبقى من لبنان؟ كل هذا في الحسبان، لكنه إنْ فعل فستكون ورقته الأخيرة الخاسرة: الأثمان قد تكون باهظة، نعم! وللحرية أيضاً أثمانها الباهظة. وللسيادة أثمان قد لا تساوي لحظة واحدة من حرية اللبنانيين على أرضهم العربية!

*كاتب لبناني