مضى وقت طويل، قبل أن يتعرض المستثمرون مرة أخرى لحيرة كبيرة ناجمة عن التغيرات والسياسات الاقتصادية والمالية، التي ترتبت على جائحة كورونا، وما صاحبها من إغلاق اقتصادي، واتباع سياسات مالية ونقدية معقدة، خلقت أجواء غير مناسبة للمستثمرين، بمن فيهم صغار المدخرين.
ولنتابع أهم مجالات الاستثمار التي ولدت مثل هذه الحيرة، فالقطاع المالي والمصرفي تأثر كثيراً بسياسات التسيير الكمي التي اتبعتها بلدان الاقتصادات الكبيرة، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية، في الوقت الذي انخفضت فيه معدلات التضخم، وتدنت أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً، بل وإلى سالبة في بعض البلدان، مما جعل الودائع تفقد جزءاً من قيمتها الحقيقية، ودفع المستثمرين إلى البحث عن مجالات أخرى، كالاستثمار في السندات، إلا أن هذا المجال يعاني بدوره من تدنٍ حاد لمعدلات الفائدة بالنسبة للدول المتقدمة، ويحمل في طياته مخاطر كبيرة بالنسبة للدول التي تصنَّف ضمن البلدان عالية المخاطر بسبب التصنيف الضعيف لها من وكالات التصنيف الائتماني، وذلك رغم معدلات الفائدة المرتفعة على إصداراتها.
أدى ذلك، إلى جانب الدعم الحكومي، إلى توفر سيولة كبيرة تبحث عن منافذ استثمارية، وهو ما أدى بدوره إلى انتفاخ أسواق المال «البورصات»، وبالأخص في الولايات المتحدة، حيث أضحت أسعارها لا تخضع لسياسيات التحليل الفني للأسهم، مما قد يعرّضها لفقاعات في المستقبل، إلا أنها مع ذلك استقطبت مجموعات كبيرة من لمستثمرين الحائرين، وبالأخص الصغار منهم.
أما القطاع العقاري، فيمر بدوره بصعوبات تتراوح شدتها بين بلد وآخر، مع أن الاستثمار به على المدى الطويل، يمكن أن يحقق بعض المكاسب بشكل عام، حيث يتفاوت ذلك وفقاً لتقييم أداء هذا القطاع في كل بلد على حده، علماً بأن حجم الاستثمارات المطلوبة غير متوفر للكثير من صغار المستثمرين.
وفيما يتعلق بأوجه الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فإن الوقت للأسف غير مناسب بسبب الإغلاق الاقتصادي، الذي أدى إلى إفلاس الكثير منها في كافة بلدان العالم، رغم الجهود المكثفة والدعم الذي تلقته هذه المؤسسات من الحكومات، والتي تعاني بدورها من نقص التمويل وعجز الموازنات، مما يؤثر على الأوضاع الاقتصادية العامة.
أما قطاع الخدمات بكافة أشكالها، فإن معاناته معقدة للغاية، إذ إن الكثير من أنشطته، متوقفة عملياً، وهو ما ينطبق على القطاع السياحي والفنادق ونقل المسافرين والخدمات الفنية في كافة القطاعات، فيما عدا بعض القطاعات التي استفادت من ظروف الأزمة، كالاتصالات والخدمات اللوجيستية الخاصة بالتوصيل، إلا أن الاستثمار فيها بصورة مباشرة أو من خلال أسواق المال، يبقى محدوداً بالقياس إلى حجم السيولة المتوفرة لدى القطاع الخاص.
يبقى هناك مجال الاستثمار الآمن الخاص بالذهب، إلا أن أسعاره ارتفعت بصورة حادة في الأشهر القليلة الماضية ليرتفع من 1400 دولار للأونصة إلى 2000 دولار تقريباً، أي بنسبة كبيرة بلغت 43%، وبالأخص بعد أن عمدت البنوك المركزية إلى شراء الذهب بعد التدهور الذي أصاب احتياطياتها الأخرى، بما فيها احتياطياتها من العملات الأجنبية.
هذه المعادلة المعقدة تعني أن الاحتفاظ بالسيولة يعرّضها لانخفاض قيمها باستمرار، في حين أن بقية أشكال الاستثمار محدودة ولا تتيح الكثير من الخيارات، وهو ما يشكل حيرة لا بد من محاولة الخروج منها، بالاعتماد على الاستشارات المهنية في كل بلد، ولكل قطاع استثماري على حده لتحقيق عوائد مقبولة، أو للمحافظة على قيمة الأصول حتى تنقشع هذه الأزمة.
هذه الصورة القاتمة لحيرة المستثمرين لا تعني أن الأمور ستبقى كذلك إلى مدى بعيد جداً، فالأزمات كثيراً ما توفر فرصاً مجدية متى ما تم تجاوزها، إلا أن ذلك سيعتمد على حسن الإدارة، واتخاذ القرارات الاستثمارية المهنية والصحيحة، وتجنب الجري وراء الإشاعات والمضاربات، وسلوك القطيع في أسواق المال. 

*خبير ومستشار اقتصادي