بعيداً أو بالإضافة إلى الصراع على تشكيل الحكومة العتيدة، يسارع رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية إلى التصارع في مسألتين أُخريين: رئيس مجلس النواب ومنذ مدة انهمك فيما يعتبره تارةً مسيراً نحو الدولة المدنية، وطوراً نحو تطبيق الدستور، بجمع لجانٍ بمجلس النواب لمناقشة أمرين: تعديل قانون الانتخابات بحيث يُعتبر لبنان دائرةً واحدة، واستحداث مجلس للشيوخ، في موازاة انتخاب مجلس للنواب محرَّر من القيد الطائفي. بينما ينهمك رئيس الجمهورية في مساعٍ لإجراء تحقيق جنائي في البنك المركزي لاكتشاف جذور الفساد بزعمه. وقد تعاقدت الحكومة مع شركة دولية ما لبثت أن اعتذرت لأنّ حاكم البنك المركزي ما زوَّدها بالوثائق الضرورية. والحاكم يتنصل بحجة أن قانون النقد والتسليف لا يسمح بكشف السرية المصرفية. وهو يحتاج إما إلى سماحٍ من وزير المالية، أو تعديل قانون النقد والتسليف. وخصومه يقولون إنّ المطلوب كشف مصاريف الحكومة وليس الأفراد، لذا لا تناقُض مع قانون النقد والتسليف، وعلى كل حال فإن وزير المالية لن يكتب إلى حاكم المصرف بالإذن رغم ترجي رئيس الجمهورية. وفي حين يُصرُّ الرئيس بري على عقد الجلسات المتوالية لإنفاذ مقترحاته، يتكتل المسيحيون، كل المسيحيين ضد أفكاره ومقترحاته. وقبل أيام قليلة أرسل رئيس الجمهورية رسالةً إلى مجلس النواب، طالب فيها بالنظر في أن يشمل التحقيق سائر وزارات الدولة! وهو بذلك يظن أنه يقطع الطريق على من يظنّ أنه بالاقتصار على المصرف المركزي إنما يضرّ الحاكم ووزارة المالية فقط، ويجنّب صهره المعاقَب أميركياً المزيدَ من الفضائح والانكشافات. فما حقيقة الأمر؟
يتحمس الرئيس بري منذ مدة للدولة المدنية. وقد ظهر حماسه هو والمفتي الشيعي أحمد قبلان أثناء الثورة، والتي تصاعد فيها الصراخ ضد فساد الطبقة السياسية، ومنها الرئيس بري، وضد سلاح حزب الله. وكان الزعماء المنظِّرون في الغالب من شباب المسيحيين وكهولهم. وفي حين بقي جبران باسيل علناً ضد الثوار لأنهم استهدفوه، فإنّ سائر أطراف التحالف الحاكم بمن في ذلك رئيس الجمهورية، والرئيس بري، زعموا التضامُنَ مع الثورة أو مع أهدافها، وإن أساء إليهم بعض شذّاذها! ولهذا السبب، ومع جهود الاختراق، أراد طرفَا الثنائي تخويف المسيحيين، ومن الرئيس والبطريرك و«القوات» و«الكتائب»، وإلى كبار السياسة الآخرين. إذ يقوم النظام الدستوري اللبناني على المناصفة في أعداد النواب والوزراء والمديرين العامين. وللمسيحيين مناصب الدولة الكبرى والحسّاسة مثل قيادة الجيش، وحاكم المصرف المركزي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى. صحيح أن الشبان الثوريين تجاهلوا الدستور، لكنّ المسيحيين الكبار يعرفون معنى تعديله. ولم يتعدَّل الدستور من قبل ليس بسبب السيطرة السورية فقط، بل ولأن المسيحيين يرون خطراً في إلغاء الطائفية السياسية. المهم أنّ الرئيس بري اكتشف فجأةً محاسن الدستور والدولة المدنية، فذهب باتجاه الاشتراع للتطبيق من الآخر! فواجهه المسيحيون، وعادوا مترددين للالتفاف حول رئيس الجمهورية!
أراد كلٌّ من الرئيس عون والرئيس بري الانتقام أحدهما من الآخر. فعون يريد الإيهام بالإصلاح، وبري إيهام الشيعة بزيادة حصتهم في الدولة المتهالكة. وكلا الرجلين مطمئن إلى أن الزعيم الأكبر سيتدخل للإسكات في الوقت المناسب. أما اليوم وكلاهما متهم بالفساد فإن فريق بري يسر بالدفاع عن «حقوقه»، وعون يرتاح لعودة المسيحيين للالتفاف من حوله.
لا دولة بري المدنية ستتحقق، ولا محاسبة الرئيس الجنائية والشفافة ستمضي قُدماً. أما الذي يمضي قُدُماً فهو الخراب الذي ينزل بالشعب اللبناني وبالدولة اللبنانية. لا حول ولا قوة إلا بالله.