عندما أصدرتُ في عام 2003 كتابي «عالم ما بعد 11 سبتمبر»، ركزتُ اهتمامي على المقاربات الاستراتيجية الأميركية بعد الزلزال الكبير، وكانت يومها تتمحور حول أطروحة كسر الاستبداد ونشر الديمقراطية لحماية المصالح الأميركية الحيوية في العالم.
عشرون عاماً مرت على الحدث الاستثنائي، وقد تزامنت مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي كثُر الحديث حوله في الآونة الأخيرة. 
بول كندي، المؤرخ الأميركي البارز ومؤلف كتاب «صعود وسقوط القوى العظمى» شبّه الانسحاب الأخير بخروج بريطانيا من الساحة الأميركية قبل 120 عاماً من أجل التفرغ للخطر الألماني في أوروبا. وبالنسبة لكندي، يندرج الانسحاب الأميركي من أفغانستان في المنطق ذاته، فالغرض منه هو التركيز على المجالين الحيويين لمصالح الولايات المتحدة في أوروبا وشرق آسيا. 
وفي ما وراء هذه الحادثة التي تهمنا في منطقة الشرق الأوسط، فقد طرأت تحولات مهمة على الحوار الاستراتيجي الأميركي الداخلي الذي تركّز في السابق حول الاتجاهين الأممي والانعزالي بصيغهما المختلفة التي تتداخل مع القسمة الثنائية التقليدية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. 
وفي كتابه الصادر عام 2019 بعنوان «حروب السيادة: مصالحة أميركا مع العالم» The sovereignty wars يذهب الباحث الأميركي في المؤسسات الدولية «ستيوارت باتريك» إلى أن التحدي الكبير الذي يواجه الولايات المتحدة حالياً هو كيف يمكن أن تحافظ على سيادتها التي هي خط حماية قوتها وصدارتها العالمية مع مقتضيات العولمة القائمة التي تفرض عليها دبلوماسية تشاركية منفتحة على العالم. 
إنه سؤال مزدوج له بعد عملي يتعلق بنمط النجاعة في الممارسة الديبلوماسية وبعد معياري يتعلق بنمط شرعية هذه الممارسة. لم يعد الخيار محصوراً بين اتجاهين سيادي وطني وآخر تعددي أممي، بل ظهر بعد ثالث هو البعد الكوسمبولوتي الذي يختلف عن الإطار التعددي في كونه لا يتعلق بالتوازن بين عدد من القوى المتمايزة بل بروابط كونية شاملة.
ويرى باتريك أن الديبلوماسية الجديدة لا بد أن تكون مركّبة ومتعددة الدوائر، يجملها في أربعة مفاهيم أساسية لكل منها محدداتها المعيارية: الميثاق (الشرعية) والمنتدى (التضامن) والمحفل (الفاعلية) والتحالف (المرونة).
لا يمكن بناء نظام دولي فاعل ومستقر إلا على أساس قاعدة شرعية يتم الاستناد إليها والتحاكم حولها، ومن هنا أهمية المؤسسات الدولية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية لحماية أمن العالم وسيادة واستقلال الدول وفق منظور قانوني ليبرالي صارم.
كما أن العالم محكوم عليه بالرجوع إلى دبلوماسية النادي الدولي التي طبعت المنظومة الدولية في القرن التاسع عشر، مع ما يلزم من توسيعها الآن لتشمل القوى الصاعدة، وهو الاتجاه الذي تعبّر عنه كتلة الدول العشرين الأكثر نفوذاً وتطوراً اقتصادياً وصناعياً ومجموعة السبع الكبار الأضيق. 
ومع نهاية الحرب الباردة، لم تعد التحالفات يحكمها منطق ميكانيكي تلقائي، بل إن أُطرها المؤسسية والعملية تغيّرت نوعياً ولم تعد تضبط بمعادلة دائمة، بما يفسر اليوم بالخيارات شديدة التنوع ضمن المنظومة الواحدة، ومن آخرها الشرخ داخل الكتلة الغربية بين مجموعة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي تسعى لبناء كتلة استراتيجية مستقلة تضم دول شرق آسيا وبريطانيا، في الوقت الذي تتزعّم فيه ألمانيا خط الشراكة الأوروبية مع روسيا، وتتجه الصين إلى بناء منظومات تحالف آسيوية واسعة بما في ذلك تنشيط الدائرة الأفروآسيوية من منظور اقتصادي واستراتيجي جديد. 
لا بد للعقل الاستراتيجي العربي أن يستوعب أطر اللعبة الجيوسياسية الدولية التي أبرزنا بعض محدداتها باستخدام مصطلحات ستيوارت باتريك. فغني عن البيان أن الدول الفاعلة اليوم في النظام العربي (المجموعة الخليجية المتمحورة حول الإمارات والسعودية، ومصر والمغرب والأردن) قد شرعت فعلاً في تنويع شراكاتها الاستراتيجية على مختلف الصُّعد الدولية. بيد أن هذا الجهد المحمود لم يواكبه تفكير نظري معمق في طبيعة تحولات النظام الدولي الجديد.
لا تزال الثنائيات المتجاوَزة (السيادة والشراكة، الشرق والغرب، القطبية الأحادية والتعددية القطبية.. إلخ) تسيطر على الفكر السياسي العربي، بما أدى إلى فشله في قراءة المعطيات الجديدة في النظام العالمي.
حاصل الأمر، أن الرهانات الاستراتيجية العالمية لن تتغير في تركيبتها البنيوية القائمة على معياري القوة والشرعية، بيد أن دوائر الفاعلية السياسية الديبلوماسية تغيّرت جذرياً وتنوعت في أساليبها ومعطياتها العملية. ومن هنا ضرورة التفاعل الإيجابي مع الوقائع المستجدة بدل التقوقع في التجارب المتجاوزة، وكما يقول ماركس: «من لا يعرف التاريخ محكوم عليه بإعادته».

أكاديمي موريتاني