الأسبوع الماضي كنت في أبوظبي، بدعوة كريمة من جريدة «الاتحاد» لحضور منتداها السنوي السادس عشر. كان محور المنتدى لهذا العام بعنوان «التنمية الاقتصادية.. قاطرة الاستقرار والإسهام الحضاري». وكان الحديث مشوقاً، ولأسباب تتعلق بتكويني الشخصي كنت منجذباً إلى حديث الأستاذ رشيد الخيون الذي قدّم عرضاً بصرياً بالكلمات مزج فيه سحر التراث والشعر والواقع بطريقة مبهرة. لكن ما جذبني أيضاً كان حديث مدير الجلسة الأولى الدكتور خليفة السويدي الذي تحدّث معقِّباً بسرد بانورامي حول تاريخ الإمارات كحالة تنمية مستمرة، وكذلك الإثراء الجميل والعفوي «والمدروس بذكاء» الذي قدّمه الدكتور عبدالله العوضي في الجلسة الثانية بعنوان «الإمارات تؤكد قدرةَ العرب على المبادرة الحضارية». 

كنت أجلس مستمعاً إلى كلام السويدي والعوضي وغيرهما، وأنا ابن الخمسين عاماً، في تلك القاعة الفخمة في جزيرة السعديات، وقد عادت بي الذاكرة إلى أكثر من أربعين عاماً خلت. ابن الخمسين هذا كان طفلاً لم يكمل عقده الأول بعد، وقد وفد أبواه إلى الإمارات في سبعينيات القرن الماضي كمعلمين معارين من الأردن، وكان توزيعهما معاً في مدرسة ابتدائية صغيرة تخدم قرية السعديات في الجزيرة التي كان يسكنها صيادون محليون.

الذاكرة تنساب، وتتلاحق صور ذلك الطفل الذي قضى مرحلة «الروضة» في الروضة الوحيدة المتاحة له بين كثبان رمل تلك الجزيرة حول مبنى المدرسة الصغير والبدائي، حيث ألحقه والداه بالمدرسة نفسها في الصف الأول الابتدائي ليتعلم الأبجدية الأولى وفك الحرف وأصول القراءة والكتابة.
كانت قرية صغيرة بسكان طيبين من أهل السعديات، وكان المشوار اليومي حينَها (الحديث عن عامي 1977 و1978) من أبوظبي حيث نسكن ونقيم إلى السعديات ليس إلا عبر قارب صغير «لنش» يحملنا في الذهاب والإياب.
وبينما أنا في ذكرياتي، كان الدكتور خليفة السويدي يتحدث عن السعديات نفسها في ذلك الزمان القديم، يا الله كم صرت قديماً أنا أيضاً، «قلت لنفسي وابتسمت»!
في الجلسة الثانية، تحدث الدكتور العوضي بمنهجية العارف، لكن بشغف الصوفي العاشق، عن مسيرة الإمارات ورؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه. تحدث عن أماكن بلا كهرباء ولا ماء وقتها، وكيف كان إصرار الوالد المؤسس على تحدي معوقات البناء والتنمية. استرسلت في الذكريات على إيقاع حديث الدكتور العوضي بسرديته المدهشة، وتذكرتُ مرحلة العيش في «غياثي» التي كانت صوراً غير واضحة، لأنها التي سبقت مرحلة السعديات.
حسناً أيها السادة.. هذا الخمسيني القادم من بلجيكا، وقد تكرس كاتباً عربياً في صحف عربية من بينها تكريمه كاتباً في «الاتحاد»، هو ذلك الطفل التي تعلَّم أول حروف الكتابة والقراءة في السعديات، تلك التي كانت جزيرة مأهولة بالصيادين البسطاء.
نعم.. بصراحة وبفخر، أنا أحد استثمارات زايد في هذا العالم، وها أنا في السعديات أصل الجزيرة عبر شارع فخم، مفرط الأناقة، من أبوظبي، والكثبان التي لعبت عليها طفلا صار عليها متحف زايد الوطني · ومتحف جوجنهايم ومتحف اللوفر- أبوظبي والمتحف البحري ودار المسرح. صارت السعديات التي تعلّمت فيها الأبجدية أيقونةَ الثقافة في الإمارات.
أيها السادة المتحدثون في المنتدى.. إن لم تكن تلك هي التنمية الاقتصادية، فلا أعرف كيف يمكن تعريفها بغير ما كنت شاهدَ عيان عليه. 

كاتب أردني مقيم في بلجيكا