في هذه المقالة وقبل الخوض في سرد وتحليل وشرح وتفسير كافة مضامين مبادئ الخمسين التي وضعتها دولة الإمارات العربية المتحدة لذاتها، لكي تسير على خطاها كمنهاج لها على مدى الخمسين عاماً القادمة من عمر الاتحاد المديد، دعوني أشير إلى أن تلك المبادئ العشرة تأتي والإمارات على يقين بأن عالماً قديماً تعيشه البشرية قد مضى وبأن عالماً جديداً يظهر إلى الوجود، وبأنها كدولة ومجتمع لديها نظرة واضحة لذلك العالم الذي مضى أو هو يمضي رويداً رويداً ونظرة أخرى لذلك العالم الذي هو آتٍ.
وقد عرفت منطقتنا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعض الحروب الطاحنة والاحتياجات العسكرية المدمرة. وفي عدد من الحالات كان لدولة الإمارات شرف الإسهام كوسيط بحكم سمعتها الطيبة وقبولها من مختلف الأطراف. وهذا بحد ذاته يعطيها فرصاً مستقبلية جديدة لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة والعالم أجمع.
ومنذ نشأتها في الثاني من ديسمبر 1971 حظيت دولة الإمارات باحترام شديد في الأوساط العربية والإقليمية والعالمية، وكانت فرصتها الأولى لإظهار سياسة خارجية متوازنة واضحة في عام 1981 مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، فرغم أنه تم النظر إلى موقفها حيال تلك الحرب بأنه كان مثالياً من زاوية الموازنة بين عروبة العراق وجوار إيران الجغرافي، وصلابة النظر إلى المصالح الوطنية العليا للبلاد.. فكانت المساعي الحثيثة التي بذلتها مقدرةً من قبل جميع الأطراف.
المهم في الأمر هو الإشارة إلى أن التحرك لإنهاء تلك الحرب كان تصرفاً حكيماً وواعياً في مراحل مبكرة من نشوبها، وقد أبدى قادة الدولة في تلك المرحلة القدرة على شرح وجهات نظرهم وحكمتهم القائلة بأن الحروب بين الجيران لا طائل من ورائها وبأن النتيجة ستكون خسارةَ جميع الأطراف. لقد كانوا قادة قادرين على الممازجة بين الحكمة والواقعية والمحافظة على المصالح الوطنية والقومية وحسن الجوار.
وبالتأكيد فإن الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990 كان الوقت الذي ظهرت فيه ضغوط سياسية واقتصادية طالت جميع الخليجيين. وكانت هناك لحظات صعبة أفصحت عن عدم القدرة على استيعاب وفهم ما كان يحدث في شمال الخليج العربي، حيث إن العديد من الشعارات المطروحة منذ بداية خمسينيات القرن العشرين أصبحت محل تساؤل والعديد من المبادئ القائمة و«الثوابت الراسخة»، وما بني عليها من سياسات، كان لا بد أن يخضع للمراجعة والتقييم السليم، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي.
وبالتأكيد فإن كل السياسات التي أصبحت محل تنفيذ مع بداية العام 1991 نجحت في أهدافها الأساسية بعد مضي ثلاثة عقود عندما وصل الاتحاد إلى عمره الخمسين ووصلنا إلى وضع مبادئنا العشرة للخمسين عاماً القادمة التي من ضمنها تحقيق السلام في المنطقة والعيش بأمن وسلام لشعوبها والالتزام التام بحسن الجوار مع جميع جيراننا.
والآن تصنع دولة الإمارات لنفسها فرصة أخرى للانطلاق في خمسينيتها الثانية عبر عالم مفتوح ومنفتح على بعضه البعض، وهي لحظة مهمة في تاريخ تشكُّل العالم. والإمارات مدركة بأنه عليها اقتناص هذه اللحظة واستثمارها لصالح الوطن والمواطن من خلال مبادئ الخمسين. إنها فرصتنا لتأكيد مقولات كونية راسخة من ضمنها أن الخصوم الحاليين قد يصبحون أصدقاء المستقبل، وبأن الحلفاء والشركاء الحاليين لن يصبحوا خصوماً جدداً.
إنها فرصتنا كدولة وكمجتمع للقيام بصقل صيغ جديدة من الأفكار والتوجهات قبل أن تصبح الأنماط المرنة للحظة والفرص المتاحة شديدة الصلابة بحيث لا يمكن تطويعها والاستفادة منها وتتحول إلى شيء لا نستحبه أو لا نستطيع تحقيق مصالحنا من خلاله.
وفوق كل هذا وذاك، فالآن هو الوقت المناسب لنا كعرب لتغيير الطريقة التي نفكر بها تجاه عالمنا القائم والطريقة التي ندير بها شؤوننا العربية في الداخل والخارج.
وتنطلق صحة هذا الطرح من حقيقة أن العالم الذي عرفناه خلال نصف قرن الماضي، هو عالم ينسحب إلى عمر التاريخ، وبأن عالماً جديداً يدخل حياتنا هو ذو شكل غريب لم يتشكل نهائياً بعد، لكنه في طور التشكل الذي يجب أن نكون مستعدين له.

كاتب إماراتي