يلعب رئيس الجمهورية في فرنسا دوراً أساسياً: ذلك أنه هو الذي يحدد التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة. ومن جهة أخرى، تنتمي فرنسا إلى حظيرة القوى المهمة والمؤثرة في العالم. صحيح أنها لا تمتلك وزن الصين أو وزن الولايات المتحدة، ولكنها تستطيع على نحو مشروع التعبير عن رأيها في معظم المواضيع التي تكتسي أهمية جيوسياسية لأنها تحظى بمكانة خاصة على الساحة الدولية، ويُنظر إليها على هذا الأساس في بقية العالم.

وبالتالي، فإن الانتخابات الرئاسية الفرنسية ليست انتخابات محلية، بل انتخابات ينبغي أن تتناول القضايا الدولية الكبرى، ولا سيما أن السياسة الدولية والأحداث الخارجية تؤثّر تأثيرا مباشرا على حياة الفرنسيين اليومية، كل يوم بشكل أكبر.

ونتيجة لذلك، بات الفرنسيون يولون اهتماماً متزايداً للسياسة الدولية: فهذه الأخيرة باتت اليوم تدرَّس في المدارس الثانوية، وأضحت البرامج والمؤتمرات التي تتناول هذه المواضيع تحظى باهتمام ومتابعة كبيرين. ذلك أن الفرنسيين أدركوا، بغض النظر عن مواقفهم وانتماءاتهم السياسية، وبغض النظر عن فئتهم الاجتماعية، أن السياسة الدولية لديها تداعيات مباشرة على حياتهم. وبالتالي، فإنه من المفاجئ حقاً أن يكون هناك القليل جداً من المناظرات حول القضايا الدولية ضمن حملة الانتخابات الرئاسية الحالية، وخاصة في عالم حيث التطورات الدولية باتت مهمة ولها تأثير على الساحة الوطنية الفرنسية، وفي فرنسا حيث لدى المواطنين اهتمام متنام بالسياسة الدولية.

فهل هناك مناظرات كبرى محتدمة حول طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون لدى فرنسا مع الصين أو الولايات المتحدة أو روسيا، أو حول العلاقات التي ينبغي إقامتها مع أفريقيا، أو حول الطريقة التي ينبغي أن ينظر بها إلى تزايد قوة الصين وآسيا، أو حول نتائج تطور الذكاء الاصطناعي، أو حول مكانة فرنسا في العالم، أو حول الرد العالمي على الاحتباس الحراري؟ كلا. ثم إننا نلاحظ أن معظم المناظرات حول القضايا الدولية تقتصر على التهديدات المفترضة المرتبطة بمكانة الإسلام أو بتدفقات المهاجرين.

والحال أنها ليست المواضيع الأهم بالنسبة للفرنسيين، ولا هي بالمواضيع التي ستحدد دورهم في العالم. ومن جهة أخرى، تؤثّر المناظرات الداخلية على التصور الذي لدى بقية العالم عن فرنسا. ذلك أنه عندما يتناظر المرشحون الرئاسيون في المواضيع الدولية، فإنهم لا يخاطبون الفرنسيين فحسب.

ففي عالم معولم، يصبح لدى العالم كله تصور للمناقشات الداخلية في فرنسا. والحال أن فرنسا، التي كانت تُعد في الماضي البلد الغربي الأكثر شعبية وخاصة في العالم العربي-الإسلامي، ولكن أيضاً في أفريقيا وأميركا اللاتينية، باتت اليوم أقل شعبية بكثير مما كانت عليه.

وهذا يفسَّر من دون شك بالصورة التي تبعث بها للخارج: صورة بلد منغلق على نفسه بشكل متزايد، بلد يرفض الآخرين ويرفض ما هو خارجي. وهكذا، باتت فرنسا بصدد التحول إلى واحد من البلدان الغربية الأقل شعبية في بقية العالم. وهذا أيضاً نتيجة لتضييق مناظراتنا حول مكانة فرنسا في العالم. وعليه، فقد حان الوقت حقاً لكي تكون هناك، قبل الانتخابات، مناظرات جديدة تتيح زوايا نظر جديدة، وتسمح بالتطور، وتعطي وجهات نظر حول ما ينبغي أن تكون عليه فرنسا إزاء بقية العالم، وحول الطريقة التي يمكن أن تحقّق بها إشعاعاً من جديد، وأن تطوّر بها قدراتها.

إنه من الخطأ الاعتقاد أن المناظرات الداخلية ليس لها أي تأثير على الطريقة التي يُنظر بها إلى فرنسا في الخارج. وإذا كانت هذه الأخيرة ترغب في استعادة جزء من جاذبيتها المفقودة، فإنه يجدر بها أن تنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، وأن تقيم مناظرات ذات جودة عالية تمنح فرنسا صورة بلد منفتح، وواعٍ بمسؤولياته، وواعٍ بالرهانات الدولية، وليس رسماً كاريكاتورياً لنفسها.

إن فرنسا ليست أي بلد، بل لديها دور خاص، ويُنظر إليها على هذا الأساس في بقية العالم. وينبغي ألا تخسر هذه الميزة. بل ينبغي أن تكون دائما في مستوى يغبطها عليه الآخرون، وهذا هو ما يسمح لها بأن يكون لها وزن أكبر من وزنها الحقيقي. إنه رهان كبير، ومن مسؤولية المرشحين المختلفين كسبه!

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس