لا شك أن البيئة الأمنية العالمية قد تبدلت خلال الشهر الماضي وحده، أكثر مما تبدلت منذ نهاية الحرب الباردة. فالحرب الحقيقية في أوكرانيا، هي التصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي المتبادل، بين طرفين قويين هما روسيا وحلف الناتو، ويلتف حول كل طرف، عدد كبير من الأصدقاء والحلفاء والشركاء. ويبدو من غير المتوقع، أن حادثة فردية مفاجئة، في أي موقع من مواقع التصعيد المستعر، أن تمر مرور الكرام، كما حدث في تاريخ البشرية، عدة مرات.
الحروب لا تفهم لغة المعاهدات السلمية والعقود السياسية والاقتصادية الموثقة، وتنهار جميعاً، وتصبح بلا قيمة في لحظة واحدة، يرتكب فيها أفراد أو جماعات في أي من الجانبين، عملاً أخرق. ومع أن الجميع يتمتع بالحذر البالغ، ويفتحون قنوات عسكرية خلفية للتنسيق الدائم، ولضبط النفس، بعيداً عن التصريحات السياسية الصارخة، إلا أن ذلك قد لا ينفع، إذا قرر سياسي واحد، من الطرفين، أن الحادثة العرضية أو المفاجئة، لا يمكن احتمالها، كأن يتصادف مثلاً أن تُنقل معدات عسكرية غربية إلى أوكرانيا، على سبيل المثال، ويقوم الجيش الروسي بقصفها ويسقط فيها عشرات أو مئات القتلى من إحدى دول «الناتو»، والتي قد تجعل أحد السياسيين، يقرر إطلاق الطلقة الأولى للحرب العالمية الثالثة، مدفوعاً بمشاعر وطنية، لا تحسب حجم الخراب الهائل والممتد، الذي سيحدث للعالم، بعد تلك اللحظة.
المشاعر في الحروب، تطغى على الجانب العقلي، وتصبح كل الخطط السياسية والعسكرية غير ذات قيمة، حين تقع الفوضى وتتأجج المشاعر نحو أهمية التفوق العسكري الميداني، وتحطيم قوة العدو، وإخضاعه قبل أن يستعد، أو يتحرك، وهذه المشاعر لا يمكن ضبطها في الحرب، كل ثانية لها قيمة استثنائية، وإذا لم تتخذ القرار فقد يتخذه غيرك، ويلوح أمامك شبح الهزيمة والانكسار، فتضطر إلى أن تتخذ القرار الأصعب، الكارثي على كل الأحوال، ويصبح التفكير آنذاك، مجرد نكتة شريرة.
البيئة الأمنية العالمية لم تتبدل فحسب، بل بدأت معظم جيوش العالم، خلال الشهر الماضي، تحسب قوتها العسكرية، وتراجع خططها الهجومية والدفاعية، وتحصي إمكانياتها وموقفها من كل خطوة بعد لحظة إطلاق الطلقة الأولى للحرب العالمية الثالثة، وتتفنن اليوم أجهزة الاستخبارات العالمية، في تصنيف معلوماتها، إلى سرية مطلقة، لا يحق حتى للحلفاء الاطلاع عليها، وإلى مشتركة، يمكن تبادلها مع الحلفاء الموثوقين، وأخرى عادية، منشورة سابقاً في كل مكان، ويعرفها الجميع. أما التنسيق السياسي الذي نراه الآن، بين دول العالم، فهو ليس أكثر من واجهة زجاجية، ستختفي يوم يقع الفأس بالرأس.
أغرب ما في البيئة الأمنية العالمية اليوم، هو أنها تتشكل على خريطة غامضة من الأسلحة التقنية الحديثة التي جرى تخزينها طوال سبعين عاماً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فبعد الأسلحة النووية ظهرت الأسلحة الكيميائية والإشعاعية والبيولوجية وهي أسلحة دمار شامل، لا ترى ولا تميز بين البشر والمخلوقات الأخرى، ولا تعرف اللون ولا العرق ولا الدين، ولا حتى الأفكار الأيديولجية، ولو قام بالخطأ، جندي واحد متدرب، بإطلاق سلاح من هذه الأسلحة، فقد ينتهي العالم في 3 أيام.
نعم، هناك حظر لاستخدام أسلحة الدمار الشامل، ولكن من سيفكر في الحظر في اللحظة التي يتولى الغضب والنزعات الإنسانية المتأزمة دفة توجيه القرارات؟ عدا عن ذلك، هناك أسلحة أخرى كثيرة جرى تطويرها على نار هادئة لم يتم استخدامها أو تجريبها بعد، إضافة إلى هذا وذاك، فإن بعض الدول المتحفزة التي تنتظر الحرب العالمية الثالثة بفارغ الصبر، لتصفية حساباتها مع دول أخرى، أو كيانات أخرى، سوف يكون أول من يتحرك، وبدون سابق إنذار، وستتضاعف إمكانيات التأزم، في غضون دقائق وليس ساعات، وستشتعل البيئة الأمنية العالمية، في ليلة واحدة.
أعتقد أن التصعيد السياسي والدبلوماسي والاقتصادي الهائل الذي يحدث الآن، سيصعب لجمه، إذا لم يقرر أحد الطرفين التراجع خطوة، أو لم تفض المفاوضات الروسية الأوكرانية إلى نتيجة حاسمة قريباً، ويبدو أن الولايات المتحدة، وكما يحدث منذ تولي الرئيس بايدن مهامه، لديها رؤية غير مفهومة تجاه قضايا وملفات كانت استراتيجية للولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، كالعلاقة مع إسرائيل وإيران والشرق الأوسط عموماً، وكذلك بالنسبة لدول وأقاليم عدة أخرى في أنحاء العالم، والتي ستكون، بشكل أو بآخر، طرفاً رئيسياً، بعد سماع صوت الطلقة الأولى للحرب العالمية الثالثة.

لواء ركن طيار متقاعد