هل تعودُ العلاقاتُ الروسية الغربية بعد الحرب في أوكرانيا إلى ما كانت عليه؟ ترميمُ ما تُصدِّعه الحروبُ يتطلبُ أزماناً غير قصيرة. الحروبُ تُغيِّرُ الكثيرَ، حتى وإن لم تترتب عليها تحولات نوعية. وتزدادُ آثارُها حين تكونُ اقتصاديةً، وليست عسكريةً فقط، لأنها تمسُ في هذه الحالة حياةَ الشعوب.

وثمة بعدٌ آخرَ مرتبطٌ بهذه الحرب، ويؤثرُ في المستقبل، لكنه لم يحظَ بعد باهتمامٍ يُذكر، وهو الارتباطُ الثقافيُ بين روسيا وأوروبا.

كانت روسيا منذ القرن الثامن عشر على الأقل أوروبيةً بالأساس، رغم أن معظم مساحتها يقع في آسيا.

لكن أكثر سكانها يعيشون في الجزء الأوروبي. وقد تشاركَ الروسُ والأوروبيون الثقافةَ الغربيةَ الحديثةَ منذ القرن الثامن عشر على الأقل. وازدادت الرابطةُ الثقافيةُ بينهما حين دعمت الإمبراطورةُ كاترين الثانية أو العظمى ذات الأصل الألماني (البروسي وقتَها) الثقافةَ الحديثةَ، ومدت جسوراً مع أبرز المثقفين الأوروبيين في المرحلة التي بدأت خلالها أفكارُ التنوير في الانتشار. ودورُها الكبيرُ في مساندة حركة التنوير يعرفُه دارسو تاريخها، وخاصةً الدعم المالي الذي قدمته لإكمال العمل في الموسوعة الفلسفية، التي جمعت الكثير من الأفكار التنويرية.

وانتشرت الثقافةُ الأوروبيةُ في أوساط كثيرٍ من النبلاء والمثقفين الروس في تلك المرحلة وبعدها. ونجدُ ما يدلُ على ذلك في بعض الأعمال الأدبية الروسية المشهورة، مثل رواية «الحرب والسلم»، حيث أجرى مؤلفُها تولستوي عباراتٍ باللغة الفرنسية على ألسن بعض النبلاء خلال حواراتهم. ولهذا، شاعت السرديةُ التي تربطُ الكيان الروسي تاريخياً بأوروبا أكثر من آسيا، وهي سردية تتلخصُ في أن الكيان الروسي الحديث بدأ مع روس الفايكنج الذين عبَروا بحر البلطيق وهزموا المغول، ثم توسعوا شرقاً. وهُمشت حتى وقتٍ قريبٍ السرديةُ التي تفيدُ بأن روسيا في الأصل كيانٌ آسيويُ تَكوَّن من إمارات سلافية تحررت من سيطرة المغول، وتوسعت غرباً، وصولاً إلى المرحلة القيصرية التي صارت فيها روسيا دولةً كبرى.

والآن، هل تصبحُ هذه الرابطةُ الثقافيةُ إحدى ضحايا الحرب؟ وهل يسفرُ الصراعُ الذي بلغ ذروةً غير مسبوقة عن تغير كبير في رؤية روسيا لنفسها، ولأوروبا، بعد أن توسع نطاقه على المستوى الشعبي، وليس على الصعيد الرسمي فقط؟

وهل يمكن، في هذه الحالة، أن يُعاد الاعتبارُ إلى السردية الآسيوية بشأن تاريخ روسيا، أم يتنامى أثر ما يُسمى العقيدة الأوراسية التي يتبناها عددٌ من المثقفين الروس القريب بعضهم من الكريملين وفي مقدمتهم ألكسندر دوجين. ويرى مُنّظرو هذه العقيدة أن على روسيا مراجعةَ الرابطة الثقافية مع أوروبا، على أساس أن الغرب يسعى إلى فرض نموذجه، رغم أنه دخل في مرحلة تعثر. ويطرحون بديلاً يقومُ على التركيز في ثلاث دوائرٍ متداخلة. دائرةُ آسيويةُ عبر الاتجاه شرقاً، ودائرةُ في شرق أوروبا حيث مجال روسيا الحيوي، إلى جانب دائرةٍ شرق أوسطية. أسئلةُ مسكوتُ عنها الآن في ظل الانشغال بتطورات الحرب، لكنها ستكونُ ضمن أولويات روسيا، وموضع متابعةٍ من الدول التي تعنيها العلاقات معها، بعد أن تسكتَ المدافع.

* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.