في محاضرته قبل أيام بمجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، اعتبر معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشارُ الديبلوماسيُ لصاحب السمو رئيس الدولة، أن «الهيمنة الغربية على النظام الدولي في أيامها الأخيرة»، موجهاً الاهتمام إلى بوادر الصعود الصيني وتعدد مراكز القوة والنفوذ في العالم الجديد.

إن هذه القراءة الحصيفة لاتجاهات النظام الدولي تنطلق من قراءة دقيقة للتحولات العالمية الأخيرة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية التي تشكل نقطة تحول كبرى في مسار العلاقات الدولية. لقد اعتبر الفيلسوف الفرنسي «ليك فري» في مقالة منشورة بصحيفة «لفيغارو» بعنوان «بوتين وانحطاط الغرب» (4 مارس الماضي) أن الضباب الديبلوماسي الكثيف يحجب الطبيعةَ الحقيقيةَ للحرب الأوكرانية التي هي من منظور روسيا مجرد تكريس لتراجع سيطرة الغرب على العالم ومن ثم اتجاه الإنسانية إلى الأفق الشرقي الجنوبي كمحور للنظام الدولي المستقبلي.

والواقع أنه أصبح من الصعب متابعة حجم الكتابات الكثيرة التي ظهرت في السنوات الأخيرة حول انحطاط أو تراجع الغرب، في استعادة صريحة لأطروحة الرومانسيين الألمان في القرن التاسع عشر ودعاة «الطريق السلافي» في روسيا اللذين رجعوا بقوة إلى دائرة التأثير في موسكو خلال السنوات الأخيرة.

بعض هذه الكتابات الأميركية والأوروبية لا تكتفي بالوقوف عند محددات الأزمة الاجتماعية والديموغرافية والسياسية في العالم الغربي، بل تذهب أبعد من ذلك إلى نضوب المعين النظري والقيمي للحضارة الغربية التي دخلت في مرحلة قاتلة من العدمية تعكسها النزعات الشعبوية في مختلف تياراتها الرافضة للمنظور الليبرالي الحداثي والنزعات التفكيكية الموغلة في النقدية التي تشكك في كل مسلمات السردية الكونية الغربية.لقد وصل هذا الوعي إلى الزعامات الأوروبية نفسها، فهذا الرئيس الفرنسي ماكرون يعترف في خطاب علني أمام سفراء بلاده في الخارج بـ«نهاية الهيمنة الغربية على العالم».

لا يتعلق الأمر إذن بمجرد دعاية أيديولوجية روسية أو صينية في إطار نمط من الحرب الباردة الجديدة أو الصراع القطبي المتجدد. فقبل أيام صرح «لاري فينك» الذي يدير الشركة المالية الأميركية العملاقة «بلاك روك»، بأن الحرب الأوكرانية تعني نهاية العولمة في صيغتها المألوفة، متوقعاً أن ينقسم العالم إلى مجالين متصادمين من حيث الطاقة والتكنولوجيا والإعلام والأنظمة المالية، بما يعني قيام خريطة جيوسياسية دولية جديدة من ثلاث كتل: مجموعة ليبرالية غربية، ومجموعة شرقية آسيوية، ومجموعة غير منحازة من دول أميركا الجنوبية والشرق الأوسط وأفريقيا.

قد لا يكون من السهل تبين وجه النظام الدولي القادم الذي تكثر النظريات والمقاربات حوله، لكن كل المعطيات تبين حقيقتين راسختين هما: أن عهد انفراد قوة دولية بعينها بالتحكم في المنظومة العالمية قد انتهى كليا، وأن الصعود الآسيوي المتمحور حول الصين لا رجعة فيه. إن هذه الحقيقة المزدوجة تترتب عليها اعتبارات عديدة، بعضها يتعلق بالمدونة المفهومية والدلالية للعلاقات الدولية التي تركزت على نموذج الدولة السيادية الدستورية الأوروبية الذي تم تعميمه في بقية العالم وأصبح هو قاعدة القانون الدولي الناظم للعلاقة بين الكيانات الوطنية من حيث هي أمم مستقلة.

إن هذا النموذج كما هو معروف نشأ على أنقاض الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى التي تفككت بعد حروب دموية مزقت القارة قروناً متتالية. ولقد ذهب المفكر السياسي والقانوني الصيني «جيانغ شيبونغ»، أحد أبرز منظري «اليسار الجديد» في الصين، إلى أن انتصار النموذج السيادي الوطني في أوروبا لم يكن ليتم إلا في إطار تصور إمبراطوري جديد للعلاقات الدولية على أساس مؤسسي تتحكم فيه المصالح التقنية والمالية بما أفضى إلى تشكيل أول إمبراطورية عالمية كونية هي إمبراطورية العولمة. إلا أن شيبونغ يرى أن الإمبراطورية العالمية التي صاغها الغربُ تعاني راهناً من ثلاث أزمات حادة لا يمكن له أن يتغلب عليها، وهي: التفاوت الاقتصادي والاجتماعي المتزايد الناتج عن الاقتصاد الليبرالي، وانهيار نظام الحكامة السياسية المرتكز على الدولة السيادية التقليدية، وانحطاط الحالة الليبرالية الثقافية وعدميّتها.

ومن ثم يخْلص الباحث الصيني إلى أن الصين قادرة من داخل نموذجها السياسي والاقتصادي على حل هذه المعضلات في إطار توجهاتها الحالية لقيادة النظام الدولي. ليس من همنا التعليق على مقاربة شيبونغ التي ليست نغمة معزولة في الأدبيات الآسيوية التي تجد أصداءً واسعةً في الحقل الفكري الغربي نفسه، وإنما أردنا الإشارة إليها باعتبارها تطرح إشكاليات حقيقية في الحوار الاستراتيجي الجديد حول طبيعة وتوجهات النظام الدولي القادم.

*أكاديمي موريتاني