يعجبني من يتحدث بوعي، وينطق بما يعرف في حدود ثقافته وخبرته العملية واطلاعه على كافة جوانب الموضوع الذي يتصدى للحديث فيه، فيجبر المستمع أن ينصت له، بل ويجلس بين يديه كتلميذ يستزيد من علمه يسأله ويستفسر منه ويطالبه بمزيد من الشرح والتوضيح، هذا بالطبع على عكس من ينبري بالكلام، فيعرف بما لا يعرف ويتفوه بألفاظ تصيب مستمعيه بالغضب فتخرجهم عن شعورهم في بعض الأحيان.
قبل أيام جمعتني جلسة مع بعض الأصدقاء ودار الحديث في مواضيع شتى، إلى أن بدأ أحدنا يعلن تذمره من ارتفاع أسعار بعض السلع ويستنطقنا جميعاً وكأننا في حالة استجواب، ألم تشعروا بما أقول؟!، وقبل أن أبادر بالتدخل لتوضيح بعض الأمور فاجأني أحد شبابنا من أبناء الأصدقاء وهو يستسمح الجميع أن يوضح بعض النقاط، بدأ كلامه الهادئ الموزون بقوله: نعم إن التضخم مرتفع، لكن علينا أن نعي جيداً أبعاد أزمة التضخم التي يشهدها العالم حالياً. الظاهرة لا تخصنا وحدنا وتنذر بالخطر في كثير من الدول حتى الغربية منها التي تمتلك اقتصادات قوية، وكثير من شعوب العالم المتقدم تخلت عن رفاهيتها وراجعت خططها في أسلوب المعيشة بما يواكب الأزمة ويسعى لتفادي آثارها السلبية وتجاوز مضاعفاتها بأقل الخسائر الممكنة، وقدم صاحبنا للمستمعين الذين بدت عليهم علامات الإنصات بكل اهتمام تقرير صادر عن جامعة جون هوبكنز الأميركية يشير إلى أنه بعد ارتفاع التضخم لمستويات قياسية عالمياً، فإن55% من الأميركان توقفوا عن الأكل في المطاعم و39% قللوا التنقل بسياراتهم الخاصة و29% ألغوا خططهم للسفر وقضاء عطلات صيفية كما هي عادتهم السنوية، وفي الإمارات كما في كافة الدول ارتفعت أسعار السلع والخدمات بنسب متفاوتة ما بين 10 إلى 30%، وربما تكون هناك زيادة تطال مجالات أخرى خاصة مع ارتفاع تكاليف الشحن عالمياً بنسبة 300%، واختتم صاحبنا حديثه قائلاً (مفتاح معالجة التضخم عندنا بيد المستهلك).
أثنيت على كلام الشاب وأمنت على صحته، ثم أضفت نحن مطالبون بمراجعة عاداتنا الاستهلاكية بل وإجراء تغيير جذري عليها لتقليل أثر ارتفاع الأسعار على الأسر والأفراد، في مرحلة تحتاج إلى تضافر كل الجهود من أجل عبورها بأمان، وقادتنا على اطلاع كامل ومتابعة عن قرب لتطورات هذا الملف، حيث اتخذت حكومتنا الرشيدة من جانبها خطوات ملموسة في محاولة جادة لمحاصرة الأمر وتوفير كافة السلع الضرورية بأسعار في متناول جميع المقيمين على أرض الدولة. وأكدت وزارة الاقتصاد أنها تقوم بعمليات مراقبة دورية لعدد 300 سلعة من السلع الأساسية الأكثر استهلاكاً وطلباً من قبل المستهلكين والأكثر مبيعاً في الأسواق، بالشراكة مع عدد من الجهات الرقابية على المستويين المحلي والاتحادي.
إننا نتعرض لموجة غلاء عالمية لها أسبابها التي يعرفها الجميع، فخلال العاميين الماضيين وحتى اللحظة الراهنة تأثرت سلاسل التوريد بشدة وتضررت العمليات الإنتاجية والتوزيع، وعشنا شهوراً قاسية في ظل انتشار فيروس كورونا، وما إنْ كادت البشرية تتنفس الصعداء مع تراجع الإصابات والوفيات واستعادة الحياة في أركان المعمورة لسابق عهدها، حتى داهمتنا حرب روسيا وأوكرانيا مما ضاعف من آلام ونزيف الاقتصاد العالمي، وتراجعت معه أحلام الانتعاش التي كنا نمني النفس بها.
هذه الأزمات الخارجية المتتالية وانعكاساتها على كل ركن وزاوية في هذا العالم، أثبتت من جديد صحة النهج الذي قررته بلادنا منذ تأسيسها. وما زالت تواصل السير فيه بكل دقة وإتقان، فلم يكن تحدي المغفور له الشيخ زايد -طيب الله ثراه - للخبراء وإصراره على الزراعة كخيار استراتيجي لتوفير ما نحتاجه مجرد خبط عشواء، بل أثبتت الأيام نفاذ بصيرته ونحمد الله أن سار على دربه شيوخنا الكرام فها هو صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، يبث الطمأنينة في نفوس الجميع حين يغرد قائلاً (نطمئن الجميع بأن عملية توفير الغذاء في الإمارات مستدامة والأمن الغذائي أولوية قصوى بالنسبة للدولة)، بينما يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي: (تعلمنا من زايد المؤسس أن الزراعة حضارة، وعلى خطاه نسير لمستقبل أفضل لوطننا).
واليوم تجني بلادنا حصاد أكثر من نصف قرن من العمل الدؤوب، والدعم اللامحدود للزراعة والمزارعين وتوظيف التكنولوجيا والأبحاث لتسريع الوصول إلى اكتفاء ذاتي من الغذاء، وتدعيم منظومته لتلبية احتياجات السوق المحلي في أصعب الظروف وفي كل الأوقات.