شهدت ليبيا منذ مطلع هذا الشهر حراكاً شعبياً لا شك في أنه يضيف إلى متغيرات الوضع الراهن فيها، وهي إضافة إيجابية طالما سَلِمَ الحراك من محاولات تخريبه داخلياً أو الهيمنة عليه من قوى داخلية وخارجية تحاول توظيفَه لصالحها، كما شهدنا في تجارب الانتفاضات الشعبية العربية في العقد السابق، والتي بدأت بالأمل في تغيير يزيحُ آثارَ عقود من الجمود والاستبداد والفساد، فانتهت بتداعيات كارثية ما زالت حاضرةً حتى الآن.

وبالرغم من أن البعض ربما يكون قد فوجئ بهذا الحراك، فإن آخرين يرون أنه تأخر كثيراً، بالنظر إلى جمود الأوضاع في ليبيا، بل وتراجعها منذ بدت بارقة الأمل في حدوث نقلة نوعية فيها بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار، ونجاح منتدى الحوار الأممي في التوصل إلى حكومة وحدة وطنية ومجلس رئاسي جديدين على نحو أنهى ازدواجية السلطة التنفيذية بوجود حكومتين في الشرق والغرب، والاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ديسمبر الماضي كان الفشل في إجرائها بداية لجمود وتوتر جديدين في الساحة الليبية، خاصة وقد بدا من الجولات المتعددة للحوار بين الهياكل السياسية المتضاربة، كمجلسي «النواب» و«الدولة»، أن الكل يتمترس خلف مصالحه، ومن ثم كان الفشل الممتد عبر تلك الجولات العديدة في التوصل إلى قاعدة دستورية متفق عليها للانتخابات، لأن الكل يريد لها أن تأتي بما تشتهي مصالحه دون اعتبار لمصالح الشعب الليبي.

وهكذا لم تجد حركة «بالتريس»، وهي حركة وطنية شبابية خدمية انطلقت منذ2011، صعوبةً في تفجير الحراك ضد كافة المؤسسات القائمة، بما يذكرنا بالحراك الشعبي اللبناني الذي رفع شعار «كِلن يعني كِلن»، أي أن جميع المؤسسات والقيادات القائمة، إما فاسدة وإما عاجزة، ومن ثم لم يعد هناك مبرر لبقائها.

ولم تستثن «بالتريس» سوى المجلس الرئاسي الذي طالبته بتولي مقاليد الأمور ووضع تصور لانتخابات في أسرع ما يمكن، وإنهاء الوجود الأجنبي وسيطرة الميليشيات على السلطة والموارد، ومواجهة تردي الوضع المعيشي الذي تفاقم بعد الصراع الحالي في أوكرانيا وما أدى إليه من ارتفاع في أسعار القمح بصفة خاصة.

والمشكلة أن معادلات القوة في ليبيا لا تُمَكِّن المجلسَ الرئاسيَّ من تنفيذ مطالب الحراك، ومن ثم فإن طريقَه صعبٌ وممتدٌ، وسوف يواجه، كما تُظْهِر خبرة الانتفاضات الشعبية العربية في العقد الثاني من هذا القرن، محاولات لتخريبه والهيمنة عليه من الداخل والخارج، وأن معادلات القوة ما زالت بحاجة لتغيير جذري، سواء بالنظر لفوضى المليشيات المسلحة وما اكتسبته من مراكز قوة بمقدورها عرقلة أي تطور يتعارض مع مصالحها، أو للوجود العسكري الأجنبي في ليبيا، على تعدد مظاهره، ومن بينها المرتزقة.

ومن اللافت أن الحراك قد توجه في واحد من تحركاته نحو معسكر للمرتزقة، وهو ما يشير إلى وعيه بهذه المشكلة الخطيرة.

كذلك فإن تزايد حساسية الأوضاع في ليبيا دولياً تمثل مشكلةً بالتأكيد. وكان التدخل الدولي في ليبيا واضحاً منذ البداية، غير أن الأوضاع الدولية الراهنة زادت من حساسية المصالح المُتَضَمنة في الصراع الراهن، فمن ناحية زادت أهمية انتظام صادرات الطاقة الليبية لتعويض ولو جزئياً للأزمة الأوروبية التي نجمت عن العقوبات التي فُرِضت على روسيا، بل وتلك التي يبدو أن روسيا آخذة في فرضها بتقليل إمدادات الغاز لأوربا، ومن ناحية أخرى لا شك في أن روسيا ستكون أكثر تشدداً تجاه أي تسوية تتجاهل مصالحها.

والخلاصة أن الحراك الشعبي الليبي بالتأكيد تطور إيجابي، لكن الطريق أمامه مازال طويلاً وشاقاً، وعلى قادته التزام الحذر والحكمة، خاصةً أنهم لا يمسكون حتى الآن سوى بجزء من خيوط اللعبة.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة