في التاريخ الفكري للعالم تعاقبت ثلاث حقب كبرى، الأولى هي الأساطير، والثانية هي الفلسفة، والثالثة هي العلم.. ولايزال الفكر العالمي يحمل جوانب من الحقب الثلاث. كان هوميروس عنوان حقبة الأساطير، وأفلاطون عنوان حقبة الفلسفة، وجاليليو عنوان حقبة العلم. بحسب مؤرخي الفكر.. فقد كان الانتقال من ملاحم هوميروس إلى مؤلفات أفلاطون بمثابة الانتقال من عصر الأسطورة إلى عصر الفلسفة.

ولكن عصر الفلسفة ذاته سرعان ما انقسم إلى ثنائية فلسفية لازالت تحكم العقل العالمي حتى اليوم. إنها المعركة بين فلسفة أفلاطون المثالية وفلسفة أرسطو الواقعية. على مدى القرون الفائتة كان العالم يتراوح بين دعاة المثالية والأطر النموذجية للحياة، وبين دعاة فهم الإنسان كما هو لا كما يجب أن يكون، وإدراك العالم على حقيقته الناقصة لا تصوراته الكاملة.

تاريخيًا انتصر أرسطو على أفلاطون، وسيطر الأول على العلم عشرين قرنًا، وقد كان تبنّي الكنيسة في الغرب ومعها فلاسفة المسلمين في الشرق لمدرسة أرسطو.. الأثر الكبير في سطوتِه. إذْ انصبّ الجهد الكبير لفلاسفة المسيحية وعلى رأسهم توما الأكويني، وفلاسفة الإسلام وفي مقدمتهم ابن رشد.. على التوفيق بين الدين وأرسطو. في القرن السابع عشر بدأ نجم أرسطو في الأفول، فإذا كان العالم، قد تجاوز أفلاطون فيما مضي فقد حان أوان أرسطو هو الآخر.

كان ديكارت أول الفلاسفة الكبار الذين قضوا على أسطورية أرسطو. قضى ديكارت على أرسطو في هدوء شديد، فلقد رأى ما حدث لجاليليو، وكان جاليليو يكبره بعشرين عامًا. ولم يكن ديكارت ليتصادم مع من بمقدورهم حرق مؤلفاته كما تم حرق كتب جاليليو.

كان أرسطو يدور في الفراغ، وكان المنطق الشكلي وليس المنهج العلمي هو جوهر البحث عنده، وقد جاء ديكارت والذي واكب الثورة الجديدة للعلم، ليكون عنوان مشروعه هو البحث عن الحقيقة في العلوم، وإعطاء القيادة للعقل.

في صيف عام 2008 زرتُ مع الدكتور أحمد زويل الأكاديمية الإسبانية للعلوم في مدريد.. كان بعض الحضور يلتقطون صورًا تذكارية مع كتاب مفتوح، تم وضعه باحترام في إطار زجاجي. كان ذلك الكتاب نسخة أصلية من عمل علمي مهم لجاليليو. وصف عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين جاليليو بأنه «أبو العلم الحديث».

وقد كان تأييد جاليليو لأطروحة كوبرنيقوس بأن الأرض ليست ثابتة وإنما تدور حول الشمس، وتطويره التلسكوب وإثبات خطأ أرسطو حول نظرية الحركة، دافعًا كبيرًا لحركة العلم في العالم.

كان تحالف «ديكارت- جاليليو» هو ما أسس العصر الحديث، فقد أنهى ديكارت العصور الأرسطيّة، وأنهى جاليليو العصور الوسطى. لقد خاضَ المسلمون التجربة سابقًا، ففي العصور الوسطى المضيئة في العالم الإسلامي كانت الفلسفة قد بدأت في نقد أرسطو ومراجعة أطروحاته، كما كان علماء المسلمين قد قطعوا شوطًا طويلاً على طريق البحث والمعرفة بالمعايير الحديثة، ولايزال الخوارزمي وابن الهيثم من أعظم العلماء على مرّ التاريخ، لكن ذلك سرعان ما انقطع، وبدأ عصر طويل من الخمول والركود. ما انقطع في الشرق تواصل في الغرب، ومرة أخرى يحتاج الشرق إلى أن يصل ما انقطع، أن يتعلم من ماضي الشرق وحاضر الغرب.. معًا.

* كاتب مصري