تناولت مقالةُ الأسبوع الماضي أهميةَ التحولات السياسية الداخلية في الدفع باتجاه التسوية السياسية للصراعات، وكيف أن هذه التحولات تَحدث أساساً بسبب التكلفة المادية والبشرية للحروب، وساقتْ على ذلك أمثلةً محددةً لصراعات مهمة تمت تسويتها سياسياً بهذه الآلية، وعددتْ بعضَ المؤشرات في هذا الاتجاه على الجانب الأوكراني، وقد استمرت هذه المؤشرات بعد نشر المقالة، فأقال الرئيس الأوكراني قائد القوات الخاصة.. فهل يعني هذا أننا في الطريق إلى تحول ما في إدارة الصراع على الجانب الأوكراني؟

قد يذكر القارئ الكريم أن الرئيس الأوكراني بعد مدة وجيزة من بداية العملية العسكرية الروسية، وفي ضوء الخسائر الجسيمة التي تكبدتها الآلة العسكرية الأوكرانية، بدأ يُظْهِر مرونةً في أهدافه السياسية، كتلك المتعلقة بالانضمام لحلف شمال الأطلسي، فضلاً عن قبوله التفاوضَ مع روسيا جولات متعددة بدَا من بعضها أن التوصل لتفاهمات قد لا يكون مستحيلاً. غير أنه لوحظ اختفاءُ هذه المرونة لاحقاً. وفسّرت الدوائرُ الرسمية الروسيةُ هذا التطورَ بأنه ناجمٌ عن ضغوط أميركية لا تملك أوكرانيا إزاءها شيئاً.

ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن المساعدات العسكرية الغربية عامةً، والأميركية خاصةً، ورغم تركيز روسيا على تدميرها أولاً بأول، قد أفضت إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوكرانية، بدليل بطء تقدم القوات الروسية، واستمرار القدرة الأوكرانية على ضرب مواقع في دونباس، بل والحديث عن هجمات مضادة وخطط لتحرير ما تم احتلاله من أراض أوكرانية.

ومع استمرار الاعتقاد بأن روسيا لا يمكن أن تتخلى عن أهدافها في هذه الحرب، وأنها لم تستخدم بعد كلَّ ما في آلتها العسكرية من خيارات، وأن هزيمتَها في الحرب تبدو مستحيلةً مهما كانت التكلفة.. فمن الواضح أن الولايات المتحدة وحلفاءها المتحمسين ما زالوا يراهنون على حدوث الظاهرة نفسها، أي التحولات الداخلية في الجانب الروسي، وهو أمر منطقي لأن للحرب تكلفتها غير القليلة بالتأكيد على الجانب الروسي أيضاً، لكن ثمة ملاحظات ينبغي أخذها بالاعتبار في هذا الصدد، منها أن القضية بالنسبة للرأي العام الروسي وطنية بامتياز، وهي ضم أراض يسكنها روس تعرضوا لاضطهاد فادح من وجهة النظر الروسية على الأقل منذ عام 2014. وقد أظهرت تقارير زيادة شعبية بوتين بعد الحرب. كما أن ما نشاهده من مظاهر الحياة اليومية في روسيا يبدو طبيعياً للغاية.

صحيح أن هناك معارضة بالتأكيد، لكنها ثانوية على الأرجح، وإلا لصعُب إخفاءُ مظاهرها. كذلك فإن روسيا تبدو صامدةً في مواجهة العقوبات، بتحسن أداء عملتها وتخفيض سعر الفائدة في الوقت الذي رفعته الولايات المتحدة غير ما مرة بقيم تُعَد كبيرة بالمعيار الأميركي، بل إن ثمة مؤشرات الآن على أن روسيا تمارس نوعاً من العقوبات المضادة على الدول الأوروبية من خلال التحكم المدروس بإمدادات الغاز لأوروبا، وعلى أن تبرُّمَ الرأي العام الأوربي والأميركي آخذ في التزايد، ناهيك بعدم الاستقرار الحكومي الذي بدأ يظهر في عدد من البلدان الأوربية، كبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها. فهل يعني هذا كله أن الطريق باتت ممهدة لتقدم باتجاه التسوية؟

تبدو الإجابة على هذا السؤال بالغة الصعوبة لسببين على الأقل؛ أولهما يخص طرفي الصراع المباشرين، وهما روسيا وأوكرانيا، لأن القضية بالنسبة لكليهما وطنية بامتياز، وهذا يعقد للغاية عملية التنازلات، والثاني يخص الولايات المتحدة تحديداً، وهو الرغبة في استنزاف روسيا إلى الحد الأقصى.. فإلى محاولة للإجابة في المقالة القادمة.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة