لا يمكن عزل ما يحتك بهذا العالم من تحديات وتجاذبات واسعة المدى عن خصوصية دينية أو قومية مهما كانت ذات «مظلة جامعة». وفي حين أن مظاهر الحداثة عوملت في بداية طريقها للمنطقة العربية والإسلامية، بتناقضات ورفض واسع، إلا أن النقد والقراءات المتمعنة لعبت دوراً مهماً في تفكيك الأفكار اللصيقة بها، وإيجاد مشتركات بينها وبين الطموحات الحضارية الإسلامية، سيما أن مقاصدهما «الدقيقة» تحيد بعقرب بوصلتها نحو المعرفة، والتطور، والحفاظ على جسر التعلم مع القديم لا قطيعته.

ومن هنا باتت وظيفةُ التراث ذات دور محوري في منهجية أصحاب الموقف التوفيقي بين التراث الإسلامي وتيارات الحداثة، سيما أنها مجتمعةً تؤول لصون الهوية الإسلامية لا اندثارها، وتأخذ بيد المجتمعات لتجاوز التحديات لا تكرار دواعيها، والبناء على معطيات التراث القويمة نحو «نهضة» بارعة في الإضافة النوعية الحقة.

إن منهجية الإسلام التقليدي تقف حاجزاً صلداً أمام فسحة الإسلام الاجتهادي، إذ لا يمكن تحقيق أي شكل من أشكال الإصلاح الحداثي في المجتمعات الإسلامية، طالما هي مصممة على فهم النصوص بطريقة جامدة، تجعل من التفكر بها أمراً مستهجناً، بل محرماً قطعاً، فكيف لنا من الوصول للحداثة؟

وقد حقق العديد من الفلاسفة والمفكرين المسلمين، خطوات فارقة في قراءة الحداثة بصورة متوازنة من خلال التوفيق بين التراث والحداثة، وذلك دون أي تجاوزات للثابت المقدس، بل انطلاقاً من النص الذي يحوز مكانة مركزية في وجدان وفكر العربي والمسلم، فالقرآن الكريم يحمل الكثير من المساحات التي تقبل تعدد التأويل، وتتحدد بمعيارية زمنية، وسببية للنزول. فالقرآن بذاته نص مقدس راعى التحولات الزمانية وصلح بتعدد أوجه تأويله لكل زمان ومكان، وهي من معجزاته، لا من قبيل تطويع النص.

ومن ذلك التوفيق أيضاً ما وصل له محمد باقر الصدر الذي يرى أن الحداثة من المنظور الإسلامي تقوم على عدة أركان منهجية، تتمثل في التجديد المنهجي لا التقليد، والعمل على تفكيك النظريات، واستخدامات المصطلحات ذات الصلة، والاستناد لـ«التكامل المعرفي» من خلال استخدام العصري من العلوم، وتناول الجهود البشرية السابقة بعين الدارس لا الحافظ فقط، وتجاوز التقليد والاهتمام بالموضوعية وحدود الأمانة العلمية، والمنهجية ذات الطابع الأخلاقي والواقعي، وغيرها الكثير من الخطوات الساعية باجتهاد لتحقيق واقعي من الحداثة، لا وقوفاً على التنظير.

ولم يكن لهذه الرؤية الإسلامية المعاصرة أن تنضج في مقارباتها التوفيقية دون المرور بكلا الاتجاهين الموافق والمقاطع للحداثة، والذي مثل سلاحاً ذا حدين في إلزامية تجاوز مغالطاته، والبناء على معايناته وصولاً لقراءة معاصرة تتخطى جدران التحجر وتنطلق لمواكبة حداثية معرفية متقدمة ذات جذور أصيلة واستشرافات مبدعة، تتخطى أسياج السلطة المطلقة من قبيل التقديس لما هو خارج إطار التقديس، وخروجاً بخطاب ممزوج بنفائس القيم، والمفاهيم، والوسائل الدافعة بالتطور والوصول لمستقبل وواقع أفضل حداثي، بعيد عن التمرد أو التخلف.

إن التوازن في تناول التحديثات الطارئة على المجتمعات الإنسانية ككل، يُقر بعد كثير من التجارب الإنسانية بضرورة السمو على كافة النوازع الطائفية والفوارق الجغرافية، والاجتماع على لوازم ازدهار البشرية التي تشاركت في اختلافها، واختلفت في عقولها واتفقت على أنها متحدة في أصلها، ومن ذلك فلابد من حداثة شاملة، تعي وسائلها وأدواتها قيمة العقل دون إفراط أو تفريط، وتؤمن بضرورة التغيير باعتباره الثابت الوحيد على أرض الواقع، بالإضافة لاعتماد الأسس والمنطلقات الحداثية الديمقراطية التي نجحت في معاملاتها كيفما اتجهت، مع خلاصها من سطوة الجمود، وتحجر الفكر، والإقلاع لبرحة الحداثة ذات الأصالة والتفوق.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة