نعى كل قادة دول العالم تقريباً الملكة إليزابيث الثانية فور إعلان قصر باكنجهام نبأ وفاتها مساء الخميس الماضي. لكن النعي الذي صرح به صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، عبر حسابه في موقع «تويتر» بدا مختلفاً.

فهو ليس نعياً روتينياً بصيغة معتادة أو مكررة، حيث عبر عن المعنى الأكثر عمقاً في حياة الملكة الراحلة وتجربتها الطويلة على رأس دولة كبرى شهدت تحولات تاريخية عدة منذ أن اعتلت العرش في فبراير 1952. إنه معنى التسامح الذي نوه به رئيس دولة الإمارات في نعيه الملكة الراحلة، عبر حسابه في «تويتر».

فقد تصدر مبدأ التسامح منظومة قيم الملكة إليزابيث، وتجلى في كثيرٍ من مواقفها وأعمالها في خدمة الشعب البريطاني من دون أي تمييز على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي. وهو أيضاً المبدأ الذي أعطته قيادة دولة الإمارات أهمية كبرى في الأعوام الأخيرة، وسعت إلى إعادة التعريف به، أملاً في أن يكون مُوجهاً للعلاقة بين البشر، ولعبت الدور الرئيس في موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على أن يكون 4 فبراير من كل عامٍ يوماً دولياً للأخوة الإنسانية، وهو اليوم الذي وقع فيه فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، الوثيقة التاريخية في أبوظبي عام 2019 في ختام مؤتمرٍ كبير عن هذه الأخوة والمبادئ التي تقوم عليها، وفي مقدمتها التسامح وقبول الآخر والسلام. ولهذا كانت العلاقة وثيقةً بين قادة دولة الإمارات العربية المتحدة والملكة الراحلة منذ عام 1969 عندما استقبلت المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، للمرة الأولى بصفته حاكماً لأبوظبي، وأهدته وساماً من الدرجة الممتازة.

وكانت هذه العلاقة الوطيدة، في أحد جوانبها المهمة، تعبيراً عن إيمان مشترك بأهمية التسامح بين البشر بوصفهم أخوةً في الإنسانية بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم. وعندما نتأمل سيرة الملكة الراحلة، نلاحظ أنها تعاملت مع البريطانيين على هذا الأساس. فكانت رئاستها للكنيسة الإنجيلية شرفية لأسباب تاريخية، إذ لم تميز بين أتباع هذه الكنيسة وغيرهم من البريطانيين، سواء مسيحيين بروتستانت من مذاهب أخرى مثل «المشيخية»، وهي المذهب الغالب في اسكتلندا، أو «المثيودية»، أو كاثوليك، أو أرثوذكس، أو غير مسيحيين مثل المسلمين، واليهود، والسيخ، والهندوس، والبوذيين، وكذلك اللادينيين، والملحدين. وكذلك كان الحال في تعاملها مع البريطانيين من أصول مختلفة، إذ لا فرق عندها بين إنجليزي أنجلوساكسوني وغيره، سواء كان من أصل هندي أو باكستاني أو صيني أو أفريقي أو عربي أو لاتيني.

فكانت مشاريعها الخيرية وخدماتها الاجتماعية لمن يحتاجها، أو يستحق الاستفادة منها، بغض النظر عن انتمائه. ولم يتأثر تسامحها هذا بتصاعد التطرف الديني والعرقي في أوروبا، ووصوله إلى بريطانيا. ولهذا ستبقى في ذاكرة التاريخ رمزاً للتسامح في عالمٍ تشتد حاجته إلى هذا المبدأ في مواجهة ازدياد التعصب والتطرف والعنف.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.