كان تشرشل قد التقى بالجنرال ديغول متأخراً بعد بداية الحرب واحتلال فرنسا من النازيين، وحسب الرواية فإن اللقاء كان في استوديو صغير تابع لمحطة «بي بي سي» العريقة، وكان تشرشل جالساً حين دخل الجنرال بكل كبريائه المعروف، مما أثار حنق الزعيم البريطاني المعتد بنفسه أيضاً، فسأله تشرشل بعجرفة متعمَّدة: مَن تكون؟ فرد عليه ديغول: أنا فرنسا.
ذلك الذي قال إنه «فرنسا» كلها بكل ما فيها في لحظة انكسار فرنسا، دخل باريس بطلاً، وزعيماً ورئيساً منتخباً، وخرج من باريس إلى قريته مستقيلاً من منصبه بعد أن قال له الفرنسيون: لا، وذلك في استفتاء نظّمه بنفسه ووقف خلفه بكل ثقله، لكن إرادة الفرنسيين كانت أكبر من كل حضوره. وبقي بعد ذلك زعيماً محترماً، لا رئيساً مذموماً باستبداده. أما البطولة، فتلك حكاية تركها هو والفرنسيون للتاريخ. 
تلك اللحظة التي شعر فيها ديغول أنه «فرنسا» كانت حقيقيةً، فهي مهزومة أمام النازي وتحتاج قائداً يوحد صفوفَها، وبانكسار تاريخي يقف أمام قائد إنجليزي يحاول التقليلَ منه وفرض هيمنته عليه، فكانت العبارة من ديغول في محلها وتوقيتها المناسبين.
لم يحمل الرجل العبارةَ معه طوال حياته، فقد تحررت فرنسا ودخل الرجل باريس سياسياً منتخباً من الشعب، لكنه خلع عن نفسه شعور عظمة الاستئثار بأنه كل «فرنسا».. تلك لحظة انتهت بكل ما فيها من تاريخ.
في عالمنا العربي، تلك مشكلتنا مع التاريخ الذي نحمله ونقوم بتحميل الحاضر الذي نعيشه كل العبء الثقيل فيه. نبحث عن أيقونات في ذلك التاريخ، وحين لا نجدها كافية كرموز مثقلة لحكاياتنا المتخمة بالأمنيات، نقوم بإعادة خلق تلك الرموز والأيقونات ونحملها معنا صوراً وحكاياتٍ نجترُّها دون الالتفات لحظةً إلى واقعنا الذي يحتاجنا بكامل نشاطنا وهمتنا ومعرفتنا وعلمنا لا بكامل غرقنا في التاريخ الذي نريد بالقوة أن نعيد خَلقه بصياغة تتناسب وأحلام اليقظة التي نعيشها.
نبحث عن «موتى» في عالمنا الذي نحياه لنعلِّق صورَهم في كل مكان، ونعيد اجترار حكايات وقصص وبطولات متوهمة في غالبيتها، حتى الحكايات التي فيها قسوة على الإنسان نعطيها صبغةً بطوليةً و«رجولةً» من نوع خاص، ونغرق في ذلك حتى ننسى أن نعيش الحياةَ كما يجب بالمعرفة والوعي والعلم، فنموت ونحن في منتصف الحلم والوهم.
وفي المحصلة.. العقل الجمعي العربي (أتحفظ أن يكون عقلاً سياسياً) متآلفٌ حد الاستسلام لفكرة البطل الذي يجمع كلَّ الأمنيات ويحصد كلَّ الخيبات في شخصه الوحيد المنفرد. وهذا «الانتظار» الدائم والمستمر والمتكرر والأزلي للبطل الجمعي، هو انتظار خلق حالة «فرض الكفاية» لكل عربي. فالإعفاء المريح والذاتي للمواطن العربي من أداء دوره البطولي المفترض والضروري في حياته ومعيشته لمقاومة الفساد والإهمال والقمع الذي يعيشه، وهو عيش على ذمة انتظار «البطل» الوهمي على الدوام.
وفي عصر تكنولوجيا المعلومات، تصبح القصة أسهل بكثير في استحضار «أيقونات الوهم البطولي» عبر صور وعبارات بلاغية كثيرة، والأسهل دوماً أن نتهم أميركا والغرب بالإمبريالية الآثمة.. «وما لزماننا عيب سوانا».

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا