أواخر العام الماضي شاع الحديث عن تفاوض لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وظهرت بعض المؤشّرات ثم اختفت سريعاً لتعلن موسكو عن استراتيجية جديدة وإدخال أسلحة متطورة في المعارك مطلع هذا العام.

ومع ظهور نتائج أولية بالسيطرة الروسية على سوليدار، إحدى بلدتين استراتيجيتين غربي مقاطعة دونيتسك في الشرق الأوكراني، وزيادة الضغط على البلدة الأخرى باخموت، دقّت كييف منتصفَ يناير الحالي ناقوسَ الخطر.

فمنذ نحو ثلاثة أشهر وانسحاب الروس من الجزء الغربي لخيرسون لم تعد القوات الأوكرانية تحقّق أي تقدم على الجبهات، في حين عززت روسيا أوضاعها على أكثر من جبهة، خصوصاً زابوريجيا، وبدا أن البرد والصقيع لن يكونا سبباً لوقف القتال. وأفاد الجانبان بأنهما يتهيّآن لمعارك الربيع. هذا موعد آخر حدّده كلُّ طرف لحسم بعض أهدافه في الحرب، معتبراً أن الوقائع الميدانية المقبلة ستحدّد إمكانات التفاوض.

وفيما أشارت موسكو إلى احتمال الدعوة إلى تعبئة جديدة لزيادة عديد قواتها، برزت في الجانب الأوكراني (الغربي) الحاجةُ إلى تزويد كييف بدبابات ثقيلة. ومع صدور قرار ألماني بالموافقة على إرسال دبابات «ليوبارد 2»، وكذلك قرار أميركي بإرسال «أبرامز أم 1» وآخر بريطاني بتقديم «تشالنجر»، أمكن الحفاظ على مظاهر التضامن والتماسك بين الحلفاء الغربيين، رغم الخلافات فيما بينهم حول جدوى هذه الخطوة، وأيضاً في شأن ما بعدها.

وزاد تشكيك أكبر الجنرالات الأميركيين في إمكان هزيمة روسيا «هذه السنة» من منسوب التشوّش الأوروبي إزاء قرارات التسليح الجديدة، غير أن الإدارة الأميركية واصلت الضغوطَ للاستمرار في تقديم ما يلزم للمجهود الحربي الأوكراني، إذ ليس هناك من خيار آخر، ولا بدّ من التصعيد في مواجهة التصعيد وصولاً إلى خفض التصعيد!

إذاً، ثمة مرحلة جديدة في هذه الحرب، والمنازلة الشرسة الموعودة تبدأ في مارس المقبل، لكنها ستحتدم لاحقاً. قبل ذلك، تأمل روسيا في أن تكون قد استولت على باخموت، مهما كلف الأمر من مقاتلي «فاغنر»، سواء لإسقاط «أيقونة المقاومة والصمود» الأوكرانية، أو لإكمال السيطرة على مقاطعة دونيتسك. إذا حقّقت روسيا هذا الهدف فستسهّل على قواتها خوضَ معارك الربيع التي ستدور عملياً على تخوم مناطق الأوكرانيين الانفصاليين أو خارجها، وسيكون هدفها تحصين المواقع في المناطق الأربع التي أعلنت روسيا أواخر سبتمبر 2022 ضمّها إلى أراضيها.

وفي المقابل بدأ سباقٌ مع الوقت في الجانب الأوكراني (الغربي) لإنهاء التدريبات على الدبابات لتكون في الخدمة وفي المواقع المطلوبة، وإن كانت مسبوقة بتقديرات خبراء يشككون في أن تتمكن من إحداث فارق على الأرض، وإذا فعلت فإن الجانب الروسي قد يلجأ إلى أسلحة غير تقليدية لإبقاء القوّة النارية في مصلحته.

لم يعد لدى الأوروبيين أي يقين خالص بالنسبة لهذه الحرب: التصعيد غير مجدٍ، ومنع انتصار روسيا كهدف استراتيجي سيعني مزيداً من التصعيد ومزيداً من الاستنزاف لاحتواء مبررات الحاجة إلى الخيار النووي. أما إطالة الحرب من أجل تلمّس أثر العقوبات على الاقتصاد الروسي وتحوّله إلى اقتصاد حرب، فقد لا يفضي إلى نتيجة، والأهم أنه لن يحسم الحربَ نفسَها. قد تكون هذه هي غاية الاستراتيجية الغربية، بهدف خفض طموحات روسيا وتوقّعاتها، وللحصول على هدنة متكافئة لا نصر فيها ولا هزيمة، وبالتالي يبقى الصراع مستمراً ومجمّداً.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن