لا تتسرع في الأمور التي قد يشكل حلها ولادة لمشكلة أخرى، و«امسك العصا من المنتصف».. هكذا تكون الإجابة على الإرادة حين تقف بين منعطفين خطيرين. 
وفي الوقت الحالي نجد أن أكثر النزاعات تنشأ من الجدليات والمتناقضات المتقابلة، وهذا واقع يمر به العالَمُ طوراً وراء طور، وصولاً لمواجهة أكبر حجماً لا تخص شعباً أو مجتمعاً أو عرقاً أو ثقافة.. بل تمس كلَّ إنسان على هذه الأرض، بما في ذلك مهددات الغلاف الجوي، نقص المياه العذبة، وتقلص المساحات الخضراء، وتغول التصحر.. وهو ما يحدث أيضاً مع معظم الإشكاليات الفكرية ذات الصلة بالعقل والدين. 
إن الطبيعة البشرية اعتادت - بلا تعميم - عدم الاهتمام إلا بما يحيط بها من قضايا أو مشاكل في دائرة ضيقة، رغم أن الارتباط الإنساني أكثر عناصر الوجود تأثراً وتأثيراً ببعضه البعض، فتجد أن اندلاع حريق ضخم، أو ثوراناً بركانياً، أو انتشارَ وباء فتاك.. في جنوب الأرض، قد لا يهم قاطني شمالها، رغم أنها مأساةً إنسانية تتشابه في تأثيرها حيثما حلّت بوجود العنصر البشري. وعليه، فإن العودة المنطقية والتلقائية بعد هذا الشعور تكون للموقف العلمي، وبجانبه الحس الأخلاقي. ففي حين نسعى لابتكارات إبداعية وأطروحات مشبعة بالإلهام التواق لخلاص الإنسان من «حالات الطوارئ» خلال الأزمات، نجد أن ذلك لم يأت من تعليمات ومسؤوليات مجردة، بل إن النفس البشرية لا تطيق تصور مشهد إنسان يناضل بكل أنفاسه لحفظ روحه بينما هي واقفة مكتوفة الأيدي، وبالتالي فإن هذا الشعور بـ«الرحمة» والتعاطف هو ذاته الذي يمكن أن يترجم مجازفة شخص بروحه من أجل إنقاذ طفل يغرق، حتى وإن لم يكن يجيد السباحة. وإذا ما صودرت هذه المشاعر الإنسانية وحكم عليها بالانصياع لقوانين المادة، أصبح التمزق القيمي والتشظي الأخلاقي مشهداً رئيسياً وبالتالي تنقلب المعايير والمفاهيم متحولةً لنفعية بحتة منزوعة الروح من أي معنى قادر على استشعار جذور الكرامة الإنسانية ومقوماتها المنضبطة.
لقد وصل الإنسانُ لمرحلة متمازجة الطرح، حتى بات غريباً عن ذاته، فأصبح يعرِّف عن نفسَه بما يمتلك من سيارات أو استثمارات.. إلخ، حتى بات لساناً ناطقاً للـ(EGO)، بعيداً عن الأنا الواضح. وقد فسر هذا «الإيجو» العديدُ من علماء النفس باعتباره الجزءَ العاقل من شخصية الإنسان المسؤول عن تحقيق التوازن بين الوعي بالنفس والجهل بمكامنها. والجانب المظلم لهذا الإيجو كونه يناقض «الأنا» المعبرة عن الذات الحقيقية. وهو الحال الذي انتقده كثير من المفكرين والفلاسفة، ولا تزال الطبيعة البشرية النقية ترفض اعتبارَه عادياً، إذ لا يمكن تفضيل الكره على الحب، ولا أن يحل الغرور محل التواضع، أو التعصب محل التسامح. 
نحن بحاجة فعلية لتصميم صورة توافقية ذكية تتضمن ألوانَ القيم والمبادئ السامية الراقية، وزوايا العلم الرصين المنهجي ذي التأثير الحقيقي في مساره المجتمعي الصحيح. وكما يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران فإن «العلوم ليس لها وعي بالدور الذي تلعبه في المجتمع، ولا بالمبادئ التي تتحكم فيها، كما أنها ليست واعية بأنها تفتقر إلى وعي بذاتها.. إن باستطاعتها أن تحقق إنجازات هامة، لكنها غير قادرة على أن تعيها، إنها فعالة ورائعة، لكن عمياء». وهكذا فإن الوعي الإنساني بحاجة لإثراء ثقافة التوافق والتشارك وللارتقاء بالحس النقدي وتصويب الحواس لكي تستمر بشكل سليم في ضوء اعتراف نابع من الإرادة الإنسانية بالقيم الأخلاقية، والنية الصادقة في المشاركة كجزء لا يتجزأ من التجربة الحضارية الآنية والمستقبلية.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة